باسم الآب والأبن والروح القدس. آمين
نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله الآب وشركة الروح القدس تبقى معكم وتستمر فيكم من الآن وإلى الأبد. آمين
رسالة الميلاد 2022
الميلاد يبشِّر بالعدالة الإلهيَّة
وَيَكُونُ صُنْعُ الْعَدْلِ سَلاَمًا، وَعَمَلُ الْعَدْلِ سُكُونًا وَطُمَأْنِينَةً إِلَى الأَبَدِ.
(نبوة أشعياء 32: 17 )
بقلم: سيادة المطران الدكتور منيب أ. يونان
نحتفل مرة ثانية بعيد الميلاد المجيد، ونصغي في بيوتنا وكنائسنا إلى القراءات الميلادية الجميلة من نبوات العهد القديم إلى قصة الميلاد العجيب في الأناجيل المفعمة بالأحداث السَّارَّة والمفاجآت الإلهيَّة وترانيم الملائكة. ولعلّ الميلاد يبعث فينا من جديد رُوْح الأمل والرَّجاء، رُوْحَ المحبَّة والمسامحة، رُوْحَ الإيمان والتَّقوى؛ فينعشنا انتعاشًا حقيقيًّا وسط ما يدور من حولنا من أحداث أليمة، لتذكرنا تجسد السلام الحقيقي في الميلاد.
ومن الأنبياء الذين تنبؤا عن ميلاد المسيح -النبي أشعياء- الذي تنبَّأ أن ميلاد المسيح سيكون من العذراء مريم “هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ «عِمَّانُوئِيلَ”. (أشعياء 7: 14) ويعني عمانوئيل الله معنا، وتنبَّأ أشعياء عن هوية المسيح المنتظر “أَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلهًا قَدِيرًا، أَبًا أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلاَمِ.
لِنُمُوِّ رِيَاسَتِهِ، وَلِلسَّلاَمِ لاَ نِهَايَةَ عَلَى كُرْسِيِّ دَاوُدَ وَعَلَى مَمْلَكَتِهِ، لِيُثَبِّتَهَا وَيَعْضُدَهَا بِالْحَقِّ وَالْبِرِّ، مِنَ الآنَ إِلَى الأَبَدِ”. (أشعياء 9: 6 – 7 ).
وتستمر نبوة أشعياء بأن المسيح المنتظر هو من يأتي بالبر والعدل لجميع المسكونة.
وَيَخْرُجُ قَضِيبٌ مِنْ جِذْعِ يَسَّى، وَيَنْبُتُ غُصْنٌ مِنْ أُصُولِهِ، وَيَحُلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ، رُوحُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ، رُوحُ الْمَشُورَةِ وَالْقُوَّةِ، رُوحُ الْمَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ الرَّبِّ. بَلْ يَقْضِي بِالْعَدْلِ لِلْمَسَاكِينِ، وَيَحْكُمُ بِالإِنْصَافِ لِبَائِسِي الأَرْضِ، وَيَضْرِبُ الأَرْضَ بِقَضِيبِ فَمِهِ، وَيُمِيتُ الْمُنَافِقَ بِنَفْخَةِ شَفَتَيْهِ. وَيَكُونُ الْبِرُّ مِنْطَقَةَ مَتْنَيْهِ، وَالأَمَانَةُ مِنْطَقَةَ حَقْوَيْهِ. (نبوة أشعياء 11: 1- 2 و 4 – 5).
تظهر نبوة أشعياء بوضوح تام أن ميلاد المسيح قد حمل طياته السلام الحقيقي المبني على البر والعدل؛ لذلك يقول الرب: “احْفَظُوا الْحَقَّ وَأَجْرُوا الْعَدْلَ. (نبوة أشعياء 56: 1) “تَعَلَّمُوا فَعْلَ الْخَيْرِ. اطْلُبُوا الْحَقَّ. انْصِفُوا الْمَظْلُومَ. اقْضُوا لِلْيَتِيمِ. حَامُوا عَنِ الأَرْمَلَةِ.” (أشعياء 1: 17).
وهكذا؛ فإنَّ السَّلام الحقيقيَّ الذي نتغنَّى به من ترانيم الميلاد الجميلة، والذي نصغي إليه هو سلامٌ مبنيٌّ على الحق والعدالة وإعطاء كلّ ذي حقٍّ حقَّه. فأشعياء النّبيّ لا يريد سلامًا حزينًا، ولا يريد سلامًا نُغيّب فيه الحرب مُدَّة، ولا يريدُ سلامًا يحافظ على الوضع القائم، ولا يريدُ سلامًا اقتصاديًّا؛ إنَّما يتنبَّأ بسلام يقوم على العدالة الإلهية، ويكون صُنع العدل سلامًا. هذه الرسالة هي رسالة قديمة حديثة تنبَّأ بها أشعياء النَّبيّ قبل الميلاد بسبعمائة عام. وهذه هي رسالتنا في هذا الميلاد التي تروي ظمأ المظلوم، وتُعْطِي رجاء لليائس الحزين، وتمنحنا جميعًا سكونًا وطمأنينة؛ لذلك مَنْ له أذنان للسَّمع فليسمع.
لقد بيّنت الحرب القائمة بين روسيا وأوكرانيا أمرين هامين:
أولهما: أن العالم الذي نعيش فيه اليوم هو عالم مترابط الوثاق، وترتبط الدول باعتمادهم المتبادل على بعضها بعضًا. أمَّا في السّياسة أو الاقتصاد، أو الثروات الطبيعية، أو حتى في العدالة فالحرب قد علَّمتنا درسًا جديدًا، فهي تؤثّر تأثيرًا سلبيًّا على العالم أجمع وإن كانت تنشب في بقعة دون أخرى. وعليه فإنَّ العدالة في أي بقعة ينبغي أن تكون عدالة كونية شاملة للجميع. أما من حيث الحرب أو العدالة المباشرة أو غير مباشرة في مناطق أخرى في العالم، فإنَّنا ندرك تمامًا بأنَّ الحرب الأخيرة بين روسيا وأكرانيا قد نبَّهتنا إلى مركزية هذا الارتباط بين الشعوب، وفتحت أعيننا على تأثيرها المباشر على الأمن الغذائي وأمن الطاقة وغيرها، وكل هذا يؤدي إلى الاستنتاج أن السلام العادل في أي بلد هو بركة للشعوب الأخرى. والعكس صحيح.
وأمَّا ثانيهما: فإن العالم يكيل بمكيالين أو معيارين. فقد كان لي لقاء مع أحد الساسة الغريبين ودار بيننا حديث شيق وصريح فسألته: “ماذا هبّت الدول الغربية لمساعدة أوكرانيا بحق؟ هل كان ذلك خوفًا على المصالح الغربية في القارة الأوروبية، أم لأن الحرب هي في دياركم، أم لأنها كشفت توتر القوة بين الساسة؟ واستطردت قائلاً: إن شعبنا الفلسطيني يتساءل لو هبّت هذه الدول الغربية بنفس الطاقة والحجم لعدالة القضية الفلسطينية لتحقق حلمنا المنشود بحل الدولتين.
وعندما تنبأ أشعياء عن ميلاد العدالة قبل الميلاد بسبعمائة عام، كان يعاين أمة تعاني اليأس وتعيش حالة من الإحباط بسبب احتلال الأشوريين لبلادهم. وأراد طمأنة شعبه بأن الله لن ينسى شعبه ولن يسمح للظالم أن يستمر؛ لأن الله هو الذي يعمل في التاريخ، وهو إله عادل. ويحثهم أن يتقوا بالرب الإله بقوله: “عَزُّوا، عَزُّوا شَعْبِي، يَقُولُ إِلهُكُمْ. (نبوة أشعياء 40: 1).
ولم تكن الأوضاع السياسية أفضل حالا آنذاك، فقد فكانت فلسطين ترزح تحت الاحتلال الروماني وأصدر أغسطس قيصر أمرًا يقضي بأن يكتتب كل واحد في مدينته ليجري إحصاء دقيقًا للشعب الذي يحكمه، وفي وسط هذه الظروف السياسية المعقدة ولد رب السلام، السيد المسيح في مذود وضيع في بيت لحم، في ظلّ ظروف أمة تتوق إلى الحرية، وتسعى إلى العدالة والعيش الكريم.
فبميلاده، أظهر الله لنا أنه لا يزال يعمل في التاريخ وهو وحده من يغيّر الأوضاع، ويغير وجه التاريخ، فقد أثبت الميلاد أن العدالة أقوى من الظلم، والتقوى أقوى من الخطيَّة، والرَّجاء أقوى من اليأس والحرية أقوى من الاحتلال، وإعطاء كل ذي حقٍ حقه، أقوى من قهر الشعوب؛ لذلك ولد المسيح وسط هذه الظروف؛ ليزرع فينا اليوم بقوة الثقة بهذا الإله المتجسد الحي الذي هو النور الحقيقي الذي ينير سلامه وعدله لكل إنسانٍ مهما صعبت الظروف وتعقدت السياسات.
هذا هو إلهنا في الميلاد، هو أقوى من الظروف والسياسات المتحيزة؛ لأنه إله العدالة الحقيقية.
هذا ما أعلنه طفل المذود لاستراتيجية عمله في مجمع الناصرة: “رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ، وَأُرْسِلَ الْمُنْسَحِقِينَ فِي الْحُرِّيَّةِ، وَأَكْرِزَ بِسَنَةِ الرَّبِّ الْمَقْبُولَةِ”. (لوقا 4: 18 – 19 ).
وقد يتساءل بعضهم: أليس هذا كلامًا روحيًّا في وضعنا الحالي؟ لا نريد كلامًا إنما حرية. وأتفق مع مَنْ يُفكّر على هذا المنوال، ولكنّني أقولها صراحة: إنَّ الميلاد يذكرنا بميلاد إله العدالة الذي لا يريد إلا العدالة لشعبنا، ولكلّ الشعوب، والحريَّة لكلّ مظلوم.
نعم، لقد سئمنا من انتهاكات حقوق الإنسان، وتعبنا من القتل والعنف والاعتقالات والأسرى، ولا تزال مخاوفنا على مصادرة الأراضي وامتداد المستوطنات، وجرحنا مما يحدث في القدس ولا سيما في الأقصى، ولا نزال نخاف على تضاؤل عدد الفلسطينيين المسيحيين، ونرى الظلم بأم أعيينا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يبعث فينا الميلاد من جديد روح الصُّمود والإيمان، ويقول لنا كما قال النبي أشعياء لأمته عَزُّوا، عَزُّوا شَعْبِي، (نبوة أشعياء 40: 1)؛ لأن الله أثبت في الميلاد أن إله العدالة يعمل في التاريخ، ويغير الأحوال بأسرع مما نفكر فيه نحن. ويدعونا الميلاد لأن نثق بهذا الإله المتجسد إله العدالة، ويدعونا لنذهب يدًا بيدٍ مع رعاة بيت ساحور ومجوس المشرق، راكعين أمام مذود المسيح، طفل المذود، ومصلين مع كل مؤمن بالصلاة بأن الله سيحقق السلام المبني على الحق والعدالة، ويخلق الرجاء في شعبنا وبيوتنا، وبلاد العالم أجمع، وفي كل مَنْ فقد الأمل في العدالة؛ لأن صلاة البار تقتدر كثيرًا في فعلها (5: 16 ).
الميلاد وقت للصلاة والدعاء بأن يحققّ الله عدالته الإلهية التي هي أقوى من أي مصلحة سياسية ضيقة. فالصلاة ليست هروبًا من الواقع، إنما تدعونا لأن نكون: مُلْقِينَ كُلَّ هَمِّكُمْ عَلَيْهِ، لأَنَّهُ (الله) هُوَ يَعْتَنِي بِكُمْ. (بطرس 5: 7 ).
إن الصلاة هي مسؤوليتنا الروحية والوطنية؛ لنحمل هموم هذا البلد وظلمه إلى طفل المذود، فنستمع إلى ترنيمة الملائكة الأبدية تدوي في ديارنا كما دوت في بيت لحم قبل ألفي عام:” الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ.” (لوقا 2: 14.
وكل عام وأنتم بخير
رسالة الميلاد 2022
187
previous post