آراء المتحدثين حول تداعيات محاضرة قداسة البابا بندكتوس السادس عشر
بيت لحم
28/9/2006
د. جريس سعد خوري
مركز اللقاء
انظر البوم الصور
في الثاني عشر من أيلول 2006، ألقى قداسة الحبر الأعظم بندكتس السادس عشر محاضرة في جامعة ريجنسبرغ التي درس فيها لفترة طويلة…
كان عنوان المحاضرة: “الإيمان، العقل والجامعة: ذكريات وتأملات”. بدا قداسته محاضرته بمقدمة حول علاقته وعمله في الجامعة والنقاشات التي كانت تدور بين المحاضرين باستعمال سليم للعقل. بعد المقدمة أكد قداسته في الفقرة الأولى من المحاضرة على ضرورة الاستعمال الصحيح للعقل، ويقول ان الجامعة كانت فخورة بوجود كليتين للاهوت فيها… ويذكر في هذه الفقرة قول واحد من الزملاء الذي قال في حينه: “استغرب من وجود كليتين للاهوت في هذه الجامعة مكرسة لشيء غير موجود؛ أي الله…” ويقول البابا: بالرغم من قسوة هذا القول، فالأمر كان مقبولا في أجواء الجامعة والحديث عن الله كان خاضعا لنقاش عقلاني وهذا يجب ان يكون في سياق تراث الإيمان المسيحي. هذه المقدمة وهذا الحديث جعله يتذكر ما نشره الأب ثيودور خوري عن الحوار الذي جرى بين الامبراطور البيزنطي عمانوئيل الثاني مع فارسي مسلم عن الإيمان الإسلامي والمسيحي حسب ما ورد في القرآن والكتاب المقدس. ويقول قداسته انه على الأغلب كان الامبراطور المبادر الى اللقاء والحوار وكان ذلك على أغلب الظن خلال حصار القسطنطينية ما بين عام 1394-1402. ويقول قداسته انه في ذلك الحوار أعطيت فرصة أكبر ومساحة للحديث أوسع مما أعطي الفارسي.
الملاحظة الأولى هي اعتراف قداسته بعدم التكافؤ في الحوار بين الامبراطور والفارسي اذ ان الامبراطور أتيحت له فرصة أكبر ومساحة أوسع. ومن البديهي انه في غياب التوازن والتكافؤ يبقى السجال أو الحوار الديني مشوَّها وغير موضوعي.
الملاحظة الثانية، وحسب ما نقرأ في الفصل السابع، فهذا اللقاء لم يكن حوارا بل سجالا وهناك فرق شاسع بين الحوار وأصوله وأهدافه والسجال الديني الذي في أغلب الأحيان ينطلق صاحبه من قناعات ثابتة حول دينه ومن أفكار مسبقة حول دين الآخر.
الملاحظة الثالثة هي أن موضوع السجال بين الامبراطور البيزنطي والفارسي كان عن الإيمان وعن الله والإنسان في القرآن والكتاب المقدس، وقد أكد قداسته انه سيركز في محاضرته على “العقل والإيمان”.
ولكن للأسف وقبل الخوض في الموضوع الذي حدده يتعرض قداسته بشكل سريع لموضوع “الجهاد” في الإسلام دون ان يشرحه او يحدد معانيه او متى يكون الجهاد مسموحاً ومتى يكون ممنوعاً وما هو “الجهاد الأكبر” و”الجهاد الأصغر”. وذكر الآية رقم 256 من سورة البقرة “لا إكراه في الدين” ملمحاً على أن هذه الآية وحسب رأي المتخصصين في الإسلام قد نزلت في الفترة الأولى عندما كان النبي محمد ضعيفاً ومهدداً. لا أدري ماذا قصد قداسته بالاستشهاد في هذه الآية الكريمة وبالتعليق عليها ولكن ما يمكن فهمه هو انه عندما كان الإسلام ضعيفا كان مسالماً وعندما انتشرت الدعوة الإسلامية وقوى الإسلام أصبح عنيفاً. اذا كان هذا ما قصده قداسته، وانا استبعد هذا، فالأمر خطير ويجب تصويبه. أقول هذا لأنه بعد الاستشهاد بهذه الآية الكريمة يقتبس قداسته قول الامبراطور البيزنظي الموجه للفارسي المسلم ألا وهو:
“أرنِ ما أتى به محمد من جديد، وستجد فقط كل الأشياء السيئة وغير الإنسانية، كاستعماله السيف في نشر الايمان الذي بشر به…”
ان قداسته قبل وبعد الاقتباس يعبر عن قسوة هذا الكلام وأنه لا يتبناه، ولكن وبالرغم من هذا يقتبسه وانا اعتقد انه لم يكن موفقا بتاتا بهذا الاقتباس الذي لا شك انه يسيء الى الإسلام والى المسلمين وانا لا أرى الربط القوي بين الاقتباس وسياق المحاضرة القيمة والتي تمحورت حول العقل والإيمان. لذا، كنت أتمنى على قداسته ان يقتبس نصوصا من كتابات حوارية بين المسلمين والمسيحيين في العصور الوسطى وهي كثيرة جدا، والتي تركز على دور العقل والمنطق وعلاقتهما بالإيمان وبالحوار. وفي لقاء اليوم اقتبس ما ورد في حوار الهاشمي والكندي وغيرهم لاثبت ان الكتابات الحوارية لم تفتقر ولم تهمل دور العقل ولم يسيطر الخوف على الحوار بين المسلمين والمسيحيين.
في رسالة الهاشمي المسلم (وهو من أقرباء الخليفة المأمون) الى الكندي (المسيحي) نقرأ:
” انني لست أجادلك الا بالجميل من الكلام والحسن من القول واللين من الألفاظ… فاحتج عافاك الله بما شئت… وقل كيف شئت فانك في أوسع الامان… ونحن راضون بما حكم به العقل لنا وعلينا اذ كان لا إكراه في الدين…”
اننا نرى من هذه الكلمات الدور الرئيس للعقل في الحوار الديني واننا نرى ان الآية “لا إكراه في الدين” ما زالت الأساس في التعامل مع الآخرين في وقت كان فيه الإسلام قويا وبعد وفاة النبي محمد، وهذا ينفي ما ورد في الفقرة الأولى من محاضرة البابا أي ان هذه الآية وردت في الفترة الأولى من الدعوة الإسلامية وفيها كان الاسلام ضعيفاً.
وفي حوار الأمير عبد الرحمن عبد الملك الهاشمي مع الراهب الطبراني نقرأ قول الأمير:
الأمير: أي الأديان أخير وأفضل؟
الراهب: خاف… وسكت…
الأمير: آمرك بالجواب وأعطيك الأمان… واني باحث عن البيان.
هناك عشرات بل مئات من النصوص الحوارية التي تثبت دور العقل وعلاقة العقل بالإيمان في الإسلام والمسيحية وهناك مئات من النصوص التي تثبت روح التسامح في الحوار والحرية لانه في أغلب الأحيان كان الحوار مطلبا إسلاميا للتعرف على المسيحية وعلى إيمانهم بدلا من تبني أفكارا مسبقة وربما مغلوطة وتسيء للمسيحيين والمسيحية.
ومن جهة ثانية فاننا نرى جليا في الفلسفة الإسلامية في العصور الوسطى وفي الوقت الذي بلغت فيه الخلافة الإسلامية أوجها كثيرا من المؤلفات والنصوص تدور حول العقل والإيمان. فالكندي يكتب “رسالة في العقل” والفارابي في كتاب “المدينة الفاضلة” يتكلم في الجزء الأول فيه عن الله ويعطى عددا من البراهين العقلية على وجوده وذلك كما فعل من بعده توما الاكويني او كما فعل من قبله الفيلسوف المسيحي، ساويرس ابن المقفع الذي قال: “لا أحب الاجتراء على الكلام في ذلك الجوهر الفاضل الشريف (الله) الذي يفوق وصف الواصفين ولا يبلغه نعت الناعتين”.
وأيضا نرى ان ابن سينا في الجزء الأول من كتاب “الالهيات” يتكلم عن الله وصفاته ووجوده مستعملا العقل والإيمان. والغزالي الذي يعتبر من أكبر الفلاسفة المسلمين يقول في كتاب “الاقتصاد في الاعتقاد” عن العقل ما يلي: “العقل منبع العلم ومطلعه وأساسه”. لذا، كنا نتمنى على قداسته ولاننا نعرف مدى احترام الفاتيكان للديانات الأخرى وان المجمع الفاتيكاني الثاني كان قد أكد في أعماله على أهمية احترام الإسلام والمسلمين، وان علاقة الفاتيكان مع الدول الإسلامية وحرصه على سعادة كل إنسان ومطالبته المستديمة بإرساء أسس العدل والسلام؛ ان لا يقتبس مثل هذا القول الذي يسيء لكل مؤمن وليس فقط للمسلمين.
أقول هذا لان قداسته أكد في 25/9/2006 على ان الحوار ضرورة حيوية وأكد على الاحترام العميق للمؤمنين المسلمين مطالبا المسلمين والمسيحيين ان يعملوا معا من اجل الدفاع عن كرامة الشخص البشري وحريته…
ومن جهة ثانية فان حاضرة الفاتيكان أكدت أكثر من مرة وبخاصة في 16/9/2006 على أن “الأب الأقدس لم يشأ ولا يريد بشكل مطلق تبني ما قد اقتبسه، ولكنه استخدمه فقط في إطار أكاديمي… وان الأب الأقدس يأسف أشد الأسف ان تكون بعض مقتطفات خطابه قد بدت مهينة لمشاعر المؤمنين المسلمين…”. وغبطة البطريرك صباح قال في سياق تعليقه على محاضرة البابا: انها مناسبة لنراجع أنفسنا جميعا” وبالطبع هي دعوة للحوار وللقاء بعقلانية وبموضوعية وباحترام متبادل وبقبول الواحد الآخر كما هو…
انني أنتهز هذه الفرصة الطيبة لادعو جميع المسيحيين والمسلمين للتريث وللتعقل في كلامهم وردود فعلهم وان يؤكدوا على أهمية الحوار والتلاقي بين أبناء الديانتين لان جهل الواحد للآخر هو عدو الحوار واللقاء والعيش المشترك. كما وأريد ان انبه الى أهمية الحوار في السياق الحضاري والثقافي والاجتماعي والسياسي الذي نعيش فيه وان لا نتأثر باغلاط أو هفوات او سياسات الآخرين بل علينا المحاولة بجدية كاملة أن يكون حوارنا في فلسطين مؤثرا على الآخرين وعلى تفكيرهم وان لا يتأثر باغلاط الآخرين او بسياساتهم غير العادلة، وان نتصدى معاً بأسلوب حضاري وانساني لكل من يسيء لدياناتنا السماوية او للمؤمنين بها.
ومن جهة ثانية فانني أقول وبصراحة ان ردود الفعل الغاضبة على ما قد اقتبسه قداسته كان حقاً طبيعياً؛ ولكن ردود الفعل ان لم تكن حضارية وعقلانية وموضوعية فانها تفقد معناها وتفرغها من جوهرها ومن منطقها. والحق في ردود الفعل لا يعني اكتساب الحق في تجاوز الأخلاقيات وتبرير أعمال العنف كحرق الكنائس وقتل راهبة في الصومال أو دعوة ابن القذافي المجنونة الذي يرى الحل في “اسلمة البابا”؛ او في هجوم القاعدة وتحريضها ضد قداسته وضد المسيحيين. ان هذه التصريحات وردود الفعل الهمجية تسيء أولا الى أصحابها ويسيئون هم الى الإسلام والى المسلمين وربما هذا ما يريده البعض.
وفي هذه المناسبة نشيد بردود الفعل الرسمية الإسلامية وبخاصة تلك التي صدرت عن سماحة الشيخ تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين والتي دعا فيها الى الحفاظ على وحدة الصف وعدم الإساءة الى الأماكن المقدسة او محاولة التجريح بأي مسيحي عربي. وبالطبع كانت هناك ردود فعل كثيرة عقلانية وداعية الى التهدئة واحترام الآخرين.
ونحن في أرضنا المقدسة اذا كنا حقيقة نحب وطننا وأرضنا وشرقنا وعروبتنا فعلينا ان نتعامل مع كل إساءة أو غلط بشكل عقلاني وإنساني يعكسان روح الديانتين السماويتين واقترح ان يدعو قداسته وفداً فلسطينيا برئاسة غبطة البطريرك مشيل صباح وسماحة قاضي قضاة فلسطين الشيخ تيسير التميمي الى الفاتيكان للتأكيد على أن الحوار السليم واحترام الواحد لعقيدة وتراث وحضارة الآخر هو الشرط الأساس لأي سلام وعدل في عالمنا اليوم. فتمسكنا بعقائدنا كما هي وعدم تسييسها واستغلالها استغلالا خاطئا، يعني تمسكنا بالعدل وبالرحمة وبحضارة المحبة والسلام.