الأب رفيق خوري§
أيها الأخوة والأخوات،
نحمد الله الذي يجمعنا في هذا الشهر المبارك، أخوة وأخوات، مسلمين ومسيحيين، متحابين مترابطين متواصلين، في السراء والضراء، خاصة في هذه الظروف العصيبة التي نمر بها والتي تدعونا إلى المزيد من اللحمة على جميع المستويات، فنكون علامة أمل لشعبنا الفلسطيني في وقت تقلصت فيه فسحة الأمل، و”ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل”. الحمد لله الذي يجمعنا في آلامنا، والألم يجمع، ويجمعنا في نضالنا، والنضال يجمع، ويجمعنا في تطلعاتنا نحو المستقبل، والتطلعات تجمع. يجمعنا ألمنا ونضالنا وأملنا ليجعل منه هذا البناء المرصوص الذي يقف صامدا أمام كل التحديات والصعوبات والمحن، فلا يخترقه عبث العابثين ولا دسائس المفتنين ولا حبائل المصطادين في المياه العكرة، سواء أكان هؤلاء من الداخل أم من الخارج.
في هذا الشهر الكريم، يقف المرء، قبل كل شيء، أمام ربه ساجدا، مصليا، صائما، متأملا، فيتذكر – وما أحوجه إلى التذكّر – أن “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله”، كما يقول الإنجيل المقدس. يمثل المرء أمام الله ليعلن ربوبيته ومحبته وليفتح أبواب قلبه لرحمته ومغفرته. نرتع في رحاب الله كي يسكب فينا صفاءه وسكينته وسخاءه ورحابته وبركته ورضوانه، فينقذنا من براثن خطايانا، ومن قيود أدراننا، ويعيد إلينا البراءة والطفولة ونقاوة الروح والذهن والقلب واللسان. يقول بطاركة الشرق الكاثوليك في رسالتهم الرعوية “معا أمام الله في سبيل الإنسان والمجتمع: العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين في العالم العربي”: إننا نضع أنفسنا أمام الله قبل كل شيء، بكل خشية وتواضع وثقة. فهو القدير الرحيم الحنان الذي يلهم خلائقه أجمعين كل عمل صالح، وهو الذي نستلهمه في كل خطوة من خطواتنا… وإذا ما وضع المرء نفسه، فردا وجماعة، في حضرة الله، الذي يفوق اسمه جميع الأسماء، فإنه يتحوّل من مستكين وعاجز وخائف إلى صاحب أمل وعمل وحميّة ورحابة في الذهن والفؤاد. فعليه سبحانه ونتوكل وبروحه نعمل وباسمه نستعين” (رقم 7). وهذا الشهر هو شهر المثول أمام الله بامتياز.
ومن هذه الرحاب الإلهية، نتوجه إلى عالم الإنسان. إن الركعة التي تسبق الإفطار ما هي إلا المثول أمام حضرة الله التي تقودنا إلى لقاء بالأخوة والأخوات في الإفطار. إن الركعة واللقاء خطوتان متلازمتان ومترابطتان ترابطا عضويا بحيث لا نستطيع أن نفصل بينها. فالواحدة تقود إلى الأخرى، والواحدة لا تسوى ولا تستوي إلا بالأخرى. من رحاب الله ننتقل إلى عالم الإنسان لننقل إليه وفيه صفاء الله وبركته ومغفرته ورضوانه وسكينته فيكون عالما جديرا بسكنى بني البشر.
والآخر، في هذا الشهر الكريم، هو الفقير قبل كل شيء. إن الصيام في الإسلام لا ينفصل عن الزكاة، والصوم في المسيحية لا ينفصل عن الصدقة. إن الصيام هو انفتاح القلب – والجيب – على الآخر. إن الفقير الذي نتوجه إليه هو الذي يجمعنا وهو الذي يدعونا بإلحاح إلى توسيع مساحة قلوبنا ورقعه سخائها لتستوعب ما لا يستطيع المجتمع استيعابه في كثير من الأحيان.
ماذا نقول لشعبنا الفلسطيني في هذا الشهر الفضيل؟ ماذا نقول له، مسيحيون ومسلمون معا؟ نقول له، قبل كل شيء، كلمة أمل في وقت عزّ عليه هذا الأمل. إن الشعب الفلسطيني محاصر من كل الجهات، محاصر من الداخل ومن الخارج، ويجد نفسه سجين قفص لا يرى له فيه مخرجا. لنعد إلى شعبنا الفلسطيني الأمل، وليكن لقاؤنا اليوم بارقة أمل لشعب ينظر في كل الآفاق وفي جميع الاتجاهات ليجد هذا البريق الذي يسنده ويعزز فيه نداءات الحياة. إن الأخوّة الإسلامية المسيحية في أرضنا المقدسة هي شعاع من هذا الأمل، الذي يستقبله شعبنا بكل فرح ويمده بأسباب الحياة والتفاؤل. وما هذا الإفطار الذي يجمعنا اليوم إلا التزام بتعزيز هذا الأمل وتثبيت أركانه.
ولكننا، مسلمين ومسيحيين، لا نكتفي بالنظر بعضنا إلى بعض، بل ننظر معا إلى شعبنا الفلسطيني، الذي ينظر بخوف ورعشة إلى مشهد تفتت وحدته الوطنية، التي ناضل وعانى من أجل تدعيمها وتأسيسها. وهي اليوم مهددة، لا من الخارج فحسب، بل من الداخل. إن العبث بالوحدة الوطنية هو عبث بدم شهدائنا، وألم جرحانا، ومعاناة معتقلينا، وبآمال مدننا وقرانا ومخيماتنا. ما هذا ما ينتظره منا شعبنا في هذه المرحلة المفصلية من مسيرة قضيتنا. لا ينتظر شعبنا منا ومن قواه السياسية أن تقوّض ما بناه بعرقه ودمه ونضاله. هل وصلنا إلى حد نقوّض فيه بأيدينا ما عجز الآخرون عن تقويضه؟ومن شعبنا نتوجه إلى مدانا الأوسع، وهو هذا الشرق الحبيب وهذا العالم العربي الممزق، الذي ينظر إلينا كالقلعة الأخيرة من قلاع وجوده ووحدته وتضامنه. هل نريد أن نتحوّل إلى عبء على هذا العالم بعد أن كنا رافعة لآماله وطموحاته وأمانيه؟ كم من مرة سمعنا على شاشات الفضائيات أصواتاً مخلصة تقول بأسى ولوعة: أصبحنا نخجل من أنفسنا أمام العالم مما يحدث على الساحة الفلسطينية.
ومن منطقتنا نتوجه أيضا إلى العالم بأسره، في هذه الأجواء المسمومة من صراع الحضارات والشعوب والديانات. نتوجه إليه لنكون أمامه شهودا لعالم مختلف تتآلف فيه الشعوب والحضارات والديانات تمجيدا لله ولخير البشرية جمعاء.
وأختم بما بدأت به، ألا وهو المثول أمام الله في هذا الشهر الكريم. وهنا ايضا الجأ إلى رسالة بطاركة الشرق الكاثوليكي حيث تقول: “نحن المسلمين والمسيحيين لسنا جبهتين أو حزبين متواجهين، بل إننا جميعا وقبل كل شيء أمام الله، وهو ربّ العالمين… وكلنا منه وله وإليه. لا نقدر بتاتا أن نقبل الآخرين الذين وضعهم الله في طريقنا ما لم نقبل الله أولا في حياتنا. وكلما اكتشفنا الله اكتشفنا ايضا قدسية الإنسان، لأن كل وجه إنساني إنما يمثّل خليقة فريدة خلقها الله “على صورته ومثاله”، وخلقها لتكون “خليفته على الأرض”. إن عيشنا المشترك هو من صميم وقوفنا أمام الله. فلنقف معا أمامه ونبحث عما نريده لمجتمعنا ومن خلاله للبشرية جمعاء، فيتحد بعضنا ببعض اتحادا روحيا باسم الله، وبهذا الاتحاد نمجد اسمه تعالى في شرقنا العزيز الذي ندعو الله أن يكون دائما أرضا طيبة لعبادة الله ولرقي الإنسان”.
أيها الأخوة والأخوات، وجودنا اليوم معا في هذه القاعة وفي هذه المناسبة العزيزة هو حدث بحد ذاته يحمل في ثناياه جميع المعاني التي ذكرناها. ولقد كان مركز اللقاء دائما وما زال وسيبقى مساحة نجتمع فيها لنعزز هذه المعاني الكبيرة التي تبني الحياة والمجتمع والأمة. إن لقاءنا اليوم بدعوة كريمة من مركز اللقاء إنما هو صرخة احتجاج على ما نحن فيه وبارقة أمل لما نتوق إليه وإرادة التزام لما نعمل من أجله… والله وليّ التوفيق،
رمضان كريم،
وكل عام وأنتم بخير.
§ دكتوراه في اللاهوت، عضو مجلس أمناء مركز اللقاء للدراسات الدينية التراثية في الأرض المقدسة، محاضر في جامعة بيت لحم وكلية اللاهوت/عبلين. القيت هذه المحاضرة في مؤتمر لاهوتي حول الثالوث الأقدس في غزير (لبنان)، في نيسان 2006. (نشر هذا المقال في مجلة اللقاء، العدد الثاني، 2007)