Home المطبوعات سر الثالوث الأقدس: مشروع إلهي لعالم الإنسان تأمل لاهوتي في ضوء أيقونة الثالوث الأقدس في سياق العالم العربي وكنائسه، الأب رفيق خوري

سر الثالوث الأقدس: مشروع إلهي لعالم الإنسان تأمل لاهوتي في ضوء أيقونة الثالوث الأقدس في سياق العالم العربي وكنائسه، الأب رفيق خوري

نشر هذا المقال في مجلة اللقاء، العدد الثاني، 2007

by mPeNDayu
791 views

سر الثالوث الأقدس

مشروع إلهي لعالم الإنسان

تأمل لاهوتي في ضوء أيقونة الثالوث الأقدس

في سياق العالم العربي وكنائسه

 

الأب رفيق خوري§

مقدمة

 

قبل كل شيء، أشكر القائمين على هذا المؤتمر لدعوتهم الكريمة إليّ للمشاركة فيه وإفساح المجال أمامي لتقديم هذه المداخلة. إن سر الثالوث الأقدس هو في قلب إيماننا المسيحي وهو، في الشرق، في صلب شهادتنا المسيحية. إن تناوله في مؤتمر، كالذي نحن بصدده، يحاول قراءة الإيمان المسيحي في سياق الحيثيات والنداءات التاريخية الراهنة، في شرقنا وفي العالم، يمكن أن يفتح آفاقا لا حدود لها من التأمل والتفكير، وصولا إلى التزام كنسي ومجتمعي في عالم اليوم وفي عالمنا بشكل خصوصي.

ومن باب الملاحظة الشخصية، أقول إنني، ما إن اطلّعت على عنوان هذا المؤتمر، أي”التوحيد والتثليث”، حتى فَرضتْ نفسَها على ذهني وقلبي ومخيلتي أيقونةُ الثالوث الأقدس للراهب الروسي اندريه روبليف. وقد رأيت أن تكون مداخلتي تأملا لاهوتيا في ضوء هذه الأيقونة، في سياق العالم العربي وكنائسه، على اعتبار أن الأيقونة معاصرة لنا وتخاطبنا اليوم في ظروفنا التاريخية الواقعية. لست مختصا في فن الأيقونات، لكن هذه الأيقونة تحاكيني، منذ بداية حياتي الكهنوتية والراعوية، وتخاطبني وتحاورني وتتحداني وتستفزني وتناديني ببهاء سرها الذي لا يُستقصى.

لا شك أن هذه الأيقونة تفتح الأبواب واسعة أمام الدراسة اللاهوتية، والتأمل الروحي والوجداني، والخشية الصوفية، والنشوة الشعرية والخيالية. وفي كل الأحوال، تضعنا أمام عالم يغمرنا بضيائه وحبوره، وتتركنا في حالة من الذهول والسكينة والصمت والشوق. أليست الكلمات، في بعض الأحيان، اختزالا لرحابة السر، فتعجز عن سبر غنى معانيه وخصب حيويته؟ إن هذه الأيقونة تنقل السر الإلهي من الطبقات الذهنية المجردة إلى المدى الوجودي المتدفق بالحياة والحيوية. فما لا ندركه بالعقل المجرد، تقوله الأيقونة بالألوان، التي تخاطب القلب من خلال العين. فقد قيل إن الأيقونة لاهوت للعينين. وكان من الممكن – وربما من الأجدى – أن نكتفي بعرض الأيقونة للتأمل الصامت لكي تبوح لنا بأسرارها في كل الاتجاهات. فالأيقونة أقرب إلى التأمل المُصلي منه إلى التحليل الذهني، وفيها من غنى الرموز ما لا يمكننا من التوقف عند كلٍّ منها.

كما يشير العنوان، يحاول هذا التأمل أن يشبك بين سر الثالوث الأقدس، وأيقونة الثالوث الأقدس، وعالمنا العربي وكنائسه، في رؤية جامعة. وعليه، يجري التأمل على ثلاثة مستويات:

1) مستوى العالم بشكل عام والعالم العربي بشكل خصوصي

2) مستوى الكنيسة وكنائسنا

3) مستوى الآخر والعلاقة به.

إن أيقونة الثالوث الأقدس ماثلة أمامنا بكل بهائها ونداءاتها. لذلك، أدعوكم الى التأمل فيها أثناء حديثنا، وإلى الإصغاء اليها أكثر من الإصغاء إليّ، لأنها أبلغ من كل ما يمكن أن أقوله. وإذا ما دعوت هذه المداخلة تأملا، فلأن الدراسة اللاهوتية العلمية تقتضي المزيد من الدقة والتدقيق، وبشكل خصوصي في موضوع كهذا لا نستطيع أن نقترب منه الا بتواضع ومخافة.

القسم الأول

ملاحظات تمهيدية

 

أبدأ هذا التأمل بمجموعة من الملاحظات السريعة التي قد تساعد على وضعه في إطاره الصحيح:

 

العالم العربي

إن خيارنا هو سياق العالم العربي، بالرغم من كل ما قد يثيره هذا الخيار من تحفظات يمكن فهمها. والخيار ليس أيديولوجيا، بل إيمانيا ولاهوتيا إن صح التعبير، ويأتي في خط الرسائل الراعوية لبطاركة الشرق الكاثوليك التي لا تتردد عن تسمية الأشياء باسمائها، انطلاقا من رؤية لاهوتية مرجعيتها سر التجسد ومشيئة الله علينا والشهادة الإنجيلية. فنحن كنيسة متجسدة “في هذه المنطقة من العالم التي أراد الله لنا لأن نعيش فيها إيماننا ورسالتنا”[1]. وما جماعاتنا المسيحية الا “خميرة تجد موقعها الطبيعي في العجينة البشرية”[2]، وتعيش فيها “بهدي من أيمانها ومشيئته عليها”[3].

 

اللاهوت الثالوثي في كنائسنا

مرّ اللاهوت الثالوثي، في كنائس الشرق بنوع خصوصي، بمرحلتين أساسيتين:

· مرحلة الصراعات المسيحانية: وهي المرحلة الواقعة بين القرن الرابع والثامن، بدءاً ببدعة أريوس وانتهاء بحرب الأيقونات، من مجمع نيقية (325) الى المجمع المسكوني السابع في نيقية (787). في هذه الفترة، تعرّضت الكنيسة إلى عدة بدع تبلورت من خلالها عقيدتها حول السيد المسيح، وبالتالي عقيدتها الثالوثية.

· مرحلة الحكم الاسلامي: وهي المرحلة التي بدأت بالفتح الاسلامي والتي يمكننا القول إنها لا تزال قائمة الى اليوم. في هذه الفترة، واجه المسيحيون باستمرار تحدي الأسئلة المتصلة بالثالوث الأقدس – من بين غيرها – علما بأن الدين الجديد يستثني بقوة الإيمان بالثالوث الأقدس.

ما يهمنا قوله هنا هو أن العقيدة الثالوثية تبلورت في أجواء من الجدل والدفاع وحوفظ عليها أيضا في مثل هذه الأجواء. ومما لاشك فيه أن هاتين المرحلتين انتجتا فكرا لاهوتيا وتراثا كنسيا واسعا ومبدعا لا نزال نفخر به ونهتدي. يكفي أن نذكر هنا كتابات الآباء القديسين في المرحلة الأولى، وكذلك كتابات لاهوتيي “التراث العربي المسيحي” في المرحلة الثانية. ولكننا لا نستطيع أن نغفل الخطر الحقيقي الكامن في مثل هذه الأجواء. إن هاجس الجدل والدفاع، مع ملحاحيته ومشروعيته، قد يحدّ من انطلاقة التفكير ويحشره في زوايا معينة قد تحول دون التوقف مليّا عند جوانب أخرى من سر السيد المسيح والثالوث الأقدس، التي لا تقل عن هاجس الجدل والدفاع أهمية وغنى ورحابة. بغض النظر عن الجدل والدفاع، الذي تتسم بهما الكثير من الأدبيات المسيحية في الشرق حول الثالوث الأقدس، يبقى السؤال الأساسي: ماذا يقول لنا ولكنائسنا ولمجتمعاتنا السر الثالوثي اليوم، في ظلّ الظروف التاريخية الواقعية الراهنة؟ وهنا، يمكن القول أن أيقونة الثالوث الأقدس الماثلة أمامنا الآن تخرجنا من المآزق التي يمكن أن نجد أنفسنا فيها، وتدفعنا الى مساحات من التفكير والتأمل أرحب وأوسع مما عهدناه، وتدعونا الى التعمق بسخاء في أبعاد أخرى لخصب هذا السر في حياتنا الفردية والجماعية.

 

الأيقونة/السر

لقد اعتاد تفكيرنا اللاهوتي أن ينطلق من المرئيات الى اللامرئيات. أما الأيقونات، فإنها تصوّر اللامرئيات، التي، بدورها، تقودنا إلى المرئيات. بدل الانتقال من الواقع الملموس الى السر، ننتقل من السر الى الواقع الملموس. وهنا يكمن سر الأيقونة. الأيقونة حضور إلهي في عالم الإنسان ووحي[4]. عندما نتأمل في الأيقونة كموسى أمام العليقة التي تشتعل ولا تحترق (راجع خروج 3: 1-6)، ونمعن التأمل فيها باندهاش الأطفال (راجع متى 11: 25)، يحصل أن تنقلب الأدوار فجأة وبشكل عفوي، فلا نَعُدْ نحن الذين نتأمل في الأيقونة، بل الأيقونة نفسها هي التي تتأمل فينا وتحاكينا وتغمرنا بأنوار سلامها ودفئها وصفائها. وإذا بالسر الكامن فيها ينشط ليأخذ مجراه فينا فينقينا ويطهرنا. وهذا ما نلاحظه في أيقونة التجلي الإلهي، حيث يتدحرج الرسل الثلاثة عن الجبل من غزارة النور المتدفق من السر الإلهي. ولكن ان ما تمرّ لحظة الذهول حتى نرى أن السر راح يتسرب في مجمل كيانهم ليشكله ويحييه من الداخل. وهذا ما يظهر في الهيئة الخارجية للرسل، كلٌّ بطريقته الخاصة (بطرس يبدو وكأنه يقول: تباعد عني يا رب، فإني رجل خاطئ، ويعقوب ينذهل ولكنه يمعن النظر ولو بخجل في سر النور الإلهي، ويوحنا بدأ يتأمل من غير أن ينظر الى النور وكأنه يتساءل: ما معنى كل هذا؟). أمام الأيقونة، نصير ما نعاينه[5]، على قدر النعمة المعطاة لنا[6]. تتحوّل الأيقونة، التي تخاطب العين، إلى ينبوع حي ومحيي[7]. يقول القديس غريغوريوس النيصي: “عندما نقترب من النور نصبح نورا”[8]. في أيقونة روبليف، هو الثالوث الذي يبحث عن صورته فينا ويحملنا التأمل فيها الى اكتشاف الأيقونة الداخلية التي تسكن فينا. في الأيقونة ولادة جديدة ومتجددة[9].

 

أيقونة الثالوث الأقدس في سياقها التاريخي

عندما نتأمل في أيقونة الثالوث الأقدس، يبدو لنا أن العالم الذي تمثله هو عالم وردي خيالي بعيد المنال وغريب عن الواقع والتاريخ والحياة. وهنا لا بد لنا من أن نتوقف سريعا عند الظروف التاريخية التي رسمت فيها هذه الأيقونة كي نبدّد هذا الانطباع ونبرز الدور الذي لعبته هذه الأيقونة في التاريخ الروسي، وهذا ما قد يساعدنا على إدراجها في سياق عالمنا العربي وكنائسه.

عاشت روسيا في القرون الوسطى ظروفا تاريخية دامية ومأساوية. فقد اجتاحها التتار ابتداء من عام 1238، فحرقوا الكنائس والأديرة، وقتلوا الناس، وتركوا البلاد في حالة من البؤس الشديد. أضف إلى ذلك انتشار الأوبئة والمجاعة والفقر. وبعد الانتصار على التتار سنة 1380، راح الوجدان الوطني الروسي يتشكل حول موسكو، وسط نزاعات مريرة ودامية بين مختلف الأمراء الإقطاعيين.

في وسط كل ذلك، نشطت الحركة النسكية في روسيا وشكلت عنصرا حيّا وفاعلا في النسيج الديني والاجتماعي والقومي. وهنا، يسطع وجه رهباني بارز لعب دورا اساسيا في تلك الحقبة من الزمن، وهو القديس سيرج الرادونيجي (Saint Serge de Radonège) (1314-1392)، ورادونجسكي قرية صغيرة تقع على بعد ستين كيلومترا شرقي موسكو، وبالقرب منها يرتفع دير الثالوث الأقدس الذي أسّسه القديس سيرج. ويمكن القول أن هذا العهد هو عهد القديس سيرج بامتياز، إذ شعت قداسته وروحيته على مجمل التاريخ الروسي طيلة هذه الفترة. كان القديس سيرج مشغوفا بالثالوث الأقدس، وعاش حياته كلها تحت علامة هذا السر العظيم، الذي كان موضع تأمله وحياته الروحية وخدمته للناس ، وتحوّل الثالوث الأقدس معه إلى تجديد روحي وبعث وطني ومشروع سلام[10]. ومن منطلق هذه الروحية الثالوثية، راح يعمل على تثبيت الوحدة على صورة الثالوث، ابتداء من جماعته الرهبانية، وصولا الى الحياة السياسية الروسية في زمنه. تحوّل سر الثالوث الأقدس الى مشروع مجتمعي وسياسي، فعمل هذا القديس على تعليم الفلاحين طريقة لتحسين الزراعة، وتدخل لمصالحة الأمراء الاقطاعيين المتحاربين، وبارك ديمتري، أمير موسكو، في حربه مع التتار. ويمكن القول أنه “جمع كل روسيا القرن الرابع عشر حول كنيسته المخصصة للثالوث”[11].وبعد مماته، أصبح للشعب الروسي الحامي السماوي للوطن[12].

خلّف القديس سيرج تيارا روحيا انخرط فيه العديد من التلاميذ. كان أندريه روبليف (حوالي 1360-1430) واحدا منهم. لقد عاش روبليف في أجواء هذا التيار الروحي الذي شقّه القديس سيرج، وانخرط فيه، وتأثر به، وسار عليه. تصفه وثائق زمنه على أنه متواضع ومفعم بالفرح والشفافية والطفولة الروحية، مما انعكس على فنه الأيقونوغرافي. دعاه أحد تلاميذ القديس سيرج، رئيس الدير نيكون، إلى دير الثالوث الأقدس لتزيين كنيسته، التي أُعيد بناؤها حديثا على أنقاض الكنيسة الأصلية التي أحرقها التتار، بالأيقونات المقدسة، ومن ضمنها أيقونة الثالوث الأقدس لتكون “ينبوع كل وحدة ونموذجها”[13]، وكان قد وصل روبليف إلى قمة نضجه الروحي والأيقونوغرافي. وهكذا، رسم سنة 1415 أيقونة الثالوث الأقدس، التي تلخّص قداسة سيرج وميراثه الروحي والاجتماعي[14]. لقد شهد روبليف وعاش كل أوجاع هذه الفترة المضطربة والمأساوية من تاريخ روسيا، فمرّ بمحنة النار واكتوى بأتونها. وفي هذا المناخ المضطرب، أراد أن يصوّر – لنقلْ بعيون الأطفال – نقيض عالم الموت والدمار والبشاعة في أيقونة تشع انسجاما وسلاما ونورا وشفافية جمعت بين السمو الفني والعمق اللاهوتي والوحي الإلهي[15].

ومن المعروف أن المخرج السينمائي الروسي العالمي، أندريه تاركوفسكي، صوّر فلما طويلا ورائعا عنوانه “اندريه روبليف” (سنة 1966)، وفيه ركّز على هذه الفترة المضطربة من الحياة الروسية، كما أظهر المفارقة بين اضطرابات هذا الدهر من جهة، والسلام والانسجام المنبثق من هذه الأيقونة من جهة أخرى، وكأنه يريد أن يقول إن هذه الأيقونة دعوة إلى البشرية لبناء عالم أفضل على صورة الثالوث الأقدس[16].

كل هذا لنصل الى القول إن العالم العربي هو ايضا يعيش اليوم في حالة مشابهة من الاضطراب والوجع والضياع. فماذا تقول لنا أيقونة الثالوث الأقدس في مثل هذه الأجواء؟

القسم الثاني

حضور الهي في العالم من أجل الإنسان

 

حضور إلهي في العالم والتاريخ

قبل أن نتوجه إلى الأيقونة، نقلّب الصحف اليومية ووسائل الإعلام المختلفة لنجد أنفسنا وسطَ عالم ممزق، حائر، ضائع في لجة محيط هائج مائج فقدت فيه البشرية بوصلة الإتجاه وفيه تتقاذفها الميتولوجيات المختلفة وتتجاذبها وتلعب بمصائرها. وإذا كانت هذه هي حالة العالم، فالعالم العربي هو البؤرة التي تتجمع فيها حاليا هذه الحالة من الضياع والفوضى، التي تتجسم بشكل خصوصي في الأرض المقدسة وقضيتها الفلسطينية (بالإضافة إلى العراق ولبنان ومناطق أخرى من العالم العربي) وفي القدس بشكل أخص كمكان نموذجي وحافل بالرمزية، مع ما تتعرض له هذه المدينة من أكبر عملية مصادرة لهويتها ودعوتها ورسالتها. من منا، أمام هذا المشهد الشرق أوسطي الدامي، لا يشعر بسطوة قدر أعمى يجرفنا ويخضعنا لترسيماته العبثية، التي نقف حيالها لا حول لنا ولا قوة، وكأننا في تراجيديا إغريقية عاتية لا تعرف الرحمة.

في هذا العالم وتناقضاته ، لا يغيب عن بالنا أيضا أن البشرية يسكنها، من ناحية أخرى، شوق وحنين عارمان إلى عالم مختلف وبشرية مصالَحة وخليقة متجددة تصلح لأن تكون سكنى لائقة لبني الإنسان. فالبشرية، والكون والخليقة من ورائها، تئن من ألم المخاض راجية التحرر من عبودية الفساد منتظرة المجد المزمع أن يتجلى فيها (راجع روما 8: 18-25). وبين الضياع والحنين، تقع مساحة خياراتنا.

في وسط كل هذا، تحلّ أيقونة الثالوث الأقدس، حضوراً إلهياً في أرض البشر لترسم الحد الفاصل بين الوجود والعدم، وتزرع في قلب التاريخ مشروعا لعالم الإنسان، ولتضعنا أمام تلك الخيارات التي تبث الموت أو تنشر الحياة، ولتحدد معالم دعوتنا ورسالتنا وشهادتنا في قلب العالم وفي قلب هذا العالم الذي هو عالمنا. إن جواب الله للعالم الممزق والضائع والحائر هو ذاته، هو كيانه، هو حياته الثالوثية، بحيث أن الحياة البشرية والتاريخ الإنساني والخليقة كلها تسير تحت علامة الثالوث، في جميع جوانب حياتها، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية والدينية[17]. وإذا انقطعت هذه المجالات الانسانية عن هذا الينبوع الألهي، فانها تنتج نقيض ما ترمي اليه وتتحوّل الى غازات سامة. عندها يصبح الشخص البشري فردانية، والقناعات تعصبا، ومحبة الشعب شوفينية، والثقافة تغريبا، والعلاقات صراعا، والأخلاق أنانية، والأديان قمعا. إن جميع الحروب والإبادات والتمييز العنصري وغيرها من الامتهانات هي حرب ابليس على الثالوث الأقدس[18]. يقول بول ايفدوكيموف: “إن صورة الإله الواحد والثالوث في آن تنتصب كقاعدة لكل وجود. لذلك، فان المسيحية مدعوة إلى أن تنسخ في حياتها الحقيقة الإلهية”[19]. توحي لنا أيقونة الثالوث الأقدس من نحن. وإذا ما انسلخنا عن صورتنا ومثالنا، فإننا نغرق في لجة العدم.

وقبل التفسير والتأويل، يكفي أن نتأمل في الأيقونة بصمت وخشوع كي نلمح فيها الصورة الأصلية والأصيلة للبشرية، بما فيها من انسجام ووحدة وسلام وخصب وحب. ويتجلّى كل ذلك بشكل سرّي في الأيقونة، وذلك في تلك الحركة الدائرية التي تجمع الأقانيم الثلاثة، وفي إيماءة الرؤوس، وفي السلام الذي يرشح من صفاء الأوجه، وفي الحب المتبادل الذي نلمسه في توجّه الواحد نحو الآخر بحنان لا متناهٍ، وكأن دورة واحدة من الحب تجمع بينهم.

يقول لنا سفر التكوين (تكوين 1: 27) إن الله خلق الانسان على صورته ومثاله، فردا وجماعة. وهذه الصورة والمثال ثالوثيان. فالله جماعة تشكل النموذج الأصلي والأصيل لكل جماعة، من أي نوع كانت. وهي صورة ومثال على شكل دعوة ووعد. فالانسان هو دائما الانسان المخلوق، والبشرية هي دائما البشرية المخلوقة، بما فيها من محدودية ومجروحية وسرعة انكسار. ولكن هذه البشرية لم تبق خارج الدائرة الثالوثية، بل دعاها الواحد والثالوث إلى دائرته أو بيئته الإلهية لتصبح شريكة ومشاركة في هذه الدينامية الإلهية[20]. فالحياة الثالوثية هي علاقة الأقانيم الثلاثة في ما بينهم (نحو الداخل)، وهذه العلاقة ليست مغلقة، بل علاقة توجّهت إلى العالم (نحو الخارج). لقد دخل الثالوث (théologie) في الزمن وأصبح تدبيرا وتاريخا (économie)، وذلك بالخلق (الذي ترمز إليه شجرة الحياة) والفداء (الذي يشير إليه الحمل)، والبشرية الجديدة (الذي يرمز إليه الهيكل – الكنيسة)، لا للخليقة وحدها فحسب، بل وللكون باسره (الصخرة على الجانب الأيمن والمستطيل المرسوم في واجهة المائدة والتي يقول المفسرون إنه يرمز إلى الكون). وهكذا إذاً، دخل الزمن في دائرة الأبدية والأبدية في دائرة الزمن، وأصبح الثالوث بيئة إنسانية والانسانية بيئة إلهية، ليبدأ الحوار أو التفاوض بينهما في سبيل بشرية مصالَحة[21]. فالثالوث حضور في العالم والتاريخ، والتاريخ والعالم حضور في عالم الثالوث. إن المغامرة البشرية تجد صداها في قلب الثالوث والمغامرة الثالوثية نجد صداها في المغامرة البشرية، لتصبح مشروعا الهيا للتاريخ البشري. وهكذا، أصبح الحب مشروعا تاريخيا، والسجود، الذي نستمد منه هذا الحب، عملا سياسيا. إن أيقونة الثالوث الأقدس تنقلنا من المفاهيم الذهنية المجردة الى الواقع التاريخي الذي أصبح قابلا لاستضافة السر في عجينته. إن الثالوث هو الهبة والنعمة والبركة الكبرى للبشرية، حيث “أرادت الأقانيم الثلاثة أن تكون معنا كما هم في ما بينهم”[22].

 

حضور إلهي من أجل الإنسان

في قلب الخليقة والكون والأرض والتاريخ، وضع اللهُ الإنسان. فالأقانيم الثلاثة، في الأيقونة ، في حالة حوار وتشاور وتبادل وتفاوض، في جو خلاّق من الحنان والرحمة والحب والنَعَم السخي المتبادل. وفي هذا الحوار تسبيح ثالوثي متبادل (الحركة نحو الداخل)، وهو أيضا حوار وتشاور وتفاوض موضوعه الأساسي هو الإنسان، خاتمة الخلق وقمته (الحركة نحو الخارج). فالإنسان – كشخص – والبشرية – كجماعة – هي هَمّ الله وموضع فرحه وعنايته ومبادراته الخلاّقة. وفي هذا الحوار السرمدي يتشكل الانسان وتتبلور هويته عبر ولادات دائمة ومتجددة. إن الشباب المتدفق من الأيقونة هو بمثابة جواب الله على شيخوخة العالم المُنْهَكة. وهذا ما يردنا إلى أيقونات والدة الإله، وقمتها عذراء فلاديمير، التي تتجلى فيها الثمرة الكاملة البهاء لتلك البشرية المصالحة، والتي تبقى أجمل صدى بشري لذاك النموذج الثالوثي.

إن أيقونة الثالوث الأقدس حضور إلهي في عالم الإنسان، حضور حيّ وعامل وفاعل ونَشِط ومحاور ليجدد هذا العالم باستمرار من الداخل، في دينامية من تبادل الصور: يأخذ الثالوث صورة الإنسان، ليأخذ الإنسان صورة الله من خلال هذه الدورة الخلاصية المتمثله في الخلق والتجسد والفداء والمجد، وكلها تشير إليها الأيقونة وتوحيها، بشكل أو بآخر. وهذا التبادل يتحوّل الى مشروع الهي، مشترك ومشارك، لعالم الإنسان. إن الثالوث الأقدس دعوة إلى البشرية للتصالح مع ذاتها، مع محدوديتها، مع مخلوقيتها، مع مجروحيتها، لانها بشرية خاطئة ومفتداة في آن واحد.

وهذا كله يتجمع في السر الإفخارستي، الذي يحتل المكان المركزي في الأيقونة، واليه تتوجه الأنظار وحركة الأيدي. إن الاحتفال الافخارستي هو المكان الذي فيه يتجمع هذا المشروع الإلهي/الإنساني ليتحوّل إلى بؤرة يتحقق فيها هذا المشروع كوعد وعربون مجد وسر إيمان في الزمن، انتظارا لأرض جديدة وسماء جديدة. وهذا لا يعني أن الحدود بين اللاهوت والناسوت التغت، لكنها أصبحت حدودا مفتوحة في تبادل عجيب يمجّد الله ويقدّس الانسان. وعليه، فإن أيقونة الثالوث – وغيرها من الأيقونات – ليتورجيا في حركتها النازلة وحركتها الطالعة كسلم يعقوب، وليس بغريب أن تحتل الأيقونات مكانها المركزي والطبيعي في المكان المقدس الشرقي. في وسط هذه الدينامية، تأخذ كلمة يسوع كل ابعادها ومعانيها: “هكذا أحب الله العالم…” (يوحنا 3: 16).

وهذا كله يردّنا الى الوثيقة المجمعية “الكنيسة في عالم اليوم”، وبشكل خصوصي إلى تلك الخاتمات الرائعة التي تكلل كل فصل من فصوله[23] برؤية محلقة في سر المسيح الذي يلج جميع مجالات الحياة الانسانية ليخصبها ويعطيها معناها الإيماني ويجددها من الداخل. وقد تكون رؤية المجمع متأثرة بنظرة تيار دي شاردان الكونية التي تضع سر المسيح في صلب تطور العالم. فهي نظرة مسيحانية أكثر منها ثالوثية، علما بأن كل عمل إلهي نحو الخارج هو عمل ثالوثي بامتياز. كما وتردنا أيقونة الثالوث الأقدس إلى رسائل بطاركة الشرق الكاثوليك، وبشكل خصوصي إلى الثانية منها “الحضور المسيحي في الشرق رسالة وشهادة”.

وإذا بنا أمام ورشة هائلة ومشروع الهي ثالوثي، وأمام دينامية إلهية تلفّ الأقانيم الثلاثة وتجرف في تيارها الكون والعالم والخليقة والبشرية المخلصة والمتصالحة في الثالوث. إن هذا المشروع يستمد من الحياة الثالوثية معناه وينبوعه والحافز له. إن الحيوية الكامنة في الثالوث هي دينامية خصبة تتسرب إلى المؤمن نفسه وإلى الجماعة المؤمنة. إن مرجعية الثالوث توحي لنا أن الشر ليس له الكلمة النهائية وأن هذه الكلمة الأخيرة هي كلمة ثالوثية. فالأمل يتحول إلى عمل في كل مجالات الحياة والتاريخ، العائلية منها والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والمجتمعية والثقافية.

إن الثالوث حياة وخصب وبركة ونعمة تذكرنا بذاك الشلال المتدفق من جانب الهيكل في رؤيا حزقيال النبي (47: 1-12) والذي يسقي كل شيء في طريقه، أو إلى تلك العظام اليابسة التي تعود اليها الحياة بفعل الروح (حزقيال فصل 37)، أو إلى المياه المتدفقة من عرش الله والحمل الواردة في سفر الرؤيا (رؤيا 22: 1-2). عندما نتأمل في ايقونة الثالوث الأقدس بكل ما فيها من حيوية وخصب، يتحوّل بهاؤها الى نار مقدسة في قلب المؤمن والجماعة المؤمنة للدخول في دينامية الثالوث وإدخال العالم معها. فالمكان، إذاً، للرجاء، وليس للقنوط أو اليأسِ او الخمول. في الدائرة الثالوثية، كما نراها في الأيقونة، نلمح السكينة، ولكن هذه السكينة ليست جمودا، بل إنها حركة وحيوية وخصب تدعو المؤمن إلى ترجمة هذه الحيوية الثالوثية إلى مشروع يجدد وجه الأرض. كان الملائكة في ضيافة ابراهيم، ليصبح ابراهيم، في نهاية الأمر، في ضيافة الثالوث، بما فيها من خصب. عندما يكون الثالوث حضورا في عالم الانسان، لا يمكن أن تكون الأشياء كما هي عليه. فالثالوث هو البؤرة التي يتجمع فيها الكون وينطلق منها. يقول تيارد دي شاردان:

“إن البيئة الإلهية، مهما كانت شاسعة، فهي في الواقع مركز. ولها بالتالي خواص المركز، أي، قبل كل شيء، المقدرة المطلقة والنهائية بأن تجمع (وبالتالي أن تكمل) الكائنات في ذاتها. في البيئة الإلهية، كل عناصر الكون تتلامس في عمقها الداخلي والنهائي… من غير أن نهجر العالم، إذاً، لِنَغُص في الله. وهناك ومن هناك، فيه وبه، سنمسك بكل شيء ونتحكم بكل شيء”[24].

من يكون الوسيط؟… هذا السؤال يقودنا الى القسم الثاني.

القسم الثالث

الكنيسة أيقونة ثالوثية

 

كنيسة أم طائفة؟

في الشرق، تبحث كنائسنا عن ذاتها وسط أنقاض التاريخ وترسباته وأوحاله. وإذا كان التاريخ مكان تجسدها وشهادتها، فقد كان لها أيضا مصيدة. فقد ظلمت التاريخ وظلمها التاريخ، ووضعها في برّاد تجمدت فيه وأصبحت جسما اجتماعيا وبشريا فقد الاتصال الحي مع جذوره الإلهية، فانسلخت نوعا ما عن هويتها ودعوتها ورسالتها وشهادتها. وإذا بها تتحوّل من كنيسة إلى طوائف تدور حول ذاتها وتغرّد في قفصها من غير أن تبهج أحدا. ولقد استطردت رسالة بطاركة الشرق الكاثوليك “سر الكنيسة” في وصفها لواقع الطائفة والذهنية الطائفية قائلة:

“ودفعت هذه الظروف عينها، في سلبياتها وقساوتها ومن جراء خطايانا، بكنائسنا المتنوعة الى التشرذم والانغلاق على ذاتها، فأصبحت طوائف تطغى عليها الفروقات والنتوءات التي حجبت عن وجهها ملامح السيد المسيح، وأطفأت فيها شعلة الروح، فنسيت أنها ليست لذاتها بل لله ولِحمْل تدبير الخلاص الى المحيط البشري الذي فيه تكوّنت وإليه أُرسلت. وهذا كله أدى إلى ما نسميه بالروح الطائفية التي تبقى تحريفا خطيرا لمفهوم الدين ونقضا صريحا لمفهوم الكنيسة. فالطائفية تعني أن الهمّ الأول هو البقاء أكثر من النمو، والدفاع عن الذات وعن الحقوق والامتيازات المكتسبة أكثر من تنمية الإيمان نفسه، وعن الانجازات البشرية أكثر من الإنجازات الإيمانية. كما تهتم بمظاهر الشعائر الدينية أكثر من اهتمامها بروحها، فتجعل منها سجنا يقيّد المؤمنين بماض بعيد غريب عن الحياة الحاضرة، بدلا من أن يطوّرها لتكون طاقة حضور وتجدد مستمر. وبذلك أصبحت كنائسنا بحكم هذه النزعة الطائفية جماعات حصرت معظم همها في ذاتها وفي أبعادها البشرية”[25].

إن التأمل في أيقونة الثالوث الأقدس كفيل بأن يعيد الكنيسة إلى ذاتها، إذ تضعها أمام صورتها الحقيقية، وفي تواصل مع جذورها الإلهية الأصيلة الصافية.

 

الكنيسة سر شركة ثالوثية

ليست الكنيسة من صنع البشر، بل هي بُعْدٌ من أبعاد السر الإلهي، الواحد والثالوث، وتدخل في دائرة السر الثالوثي لتستمد منه هويتها وكيانها ورسالتها. ليست الكنيسة مؤسسة بشرية، بل تدبير إلهي تنغرس جذوره في الشركة الثالوثية.

فالكنيسة سر:

“إن الكنيسة سر، أي ذاك التدبير الإلهي العجيب الذي “ظل مكتوما مدى الأزل” (روما 16: 25)، والذي أطلعنا الله عليه “لما تمَّ الزمان” (غلاطية 4: 4) “في الحبيب” (أفسس 1: 6). وهذا كله يعني أن الكنيسة من صنع الله، وأنها جماعة من الناس تجمعها نعمة الله أولا. وليست جماعة تجمعها روابط بشرية: “فهم الذين لا من دم ولا من رغبة لحم ولا من رغبة رجل بل من الله ولدوا” (يوحنا 1: 13)”[26].

وهذا السر هو سر شركة، كما يقول البابا يوحنا بولس الثاني:

“فهي شركة كل مؤمن شركة لاهوتية وثالوثية مع الله الآب والابن والروح القدس، والتي تفيض فتحقق شركة المؤمنين في ما بينهم، فتجمعهم في شعب واحد”[27].

وهذه الشركة هي شركة ثالوثية. يقول بول ايفدوكيموف:

“إن مطلق كنيسة الأقانيم الثلاثة الألهية يمثل الصورة الهادية لكنيسة البشر الأرضية، جماعة الحب المتبادل، ووحدة في المتعدد، ووحدة جميع البشر في طبيعة واحدة تتجمع في المسيح”[28].

وهذا ما تلخصه مقدمة آحاد زمن السنة الثامنة في الطقس اللاتيني:

“وإذا بالشعوب تتحد على مثال الثالوث، مشيدة بحكمتك الإلهية، وتُعْرَف، في كل مكان وزمان، بالكنيسة، جسد المسيح السري، وهيكل الروح القدس”.

يقول بطاركة الشرق الكاثوليك:

“وهو (الله) يجمع هذا النسل الجديد بحسب الإيمان ‘من كل عرق ومن كل بلد ومدينة وقرية وبيت‘ (أنافور القديس سيرابيون). وتوحيد هذه الشعوب في شعب واحد أمر يفوق إدراك الإنسان وقدرته: فهو عمل الله الواحد الأحد الذي يبين أن وحدته الإلهية السامية هي في الوقت نفسه سر تحقيق الكمال الذاتي في شركة الآب والابن والروح القدس. ولهذا لا تتكوّن بتجميع الأشخاص وتراكمهم، بل هي هبة منبثقة من وحدة الثالوث الواحد غير المنقسم، تقدم للناس مثالا ونموذجا لكي يعيشوا بحسبها. ‘لأن الحياة ظهرت فرأينا ونشهد ونبشركم بتلك الحياة الأبدية التي كانت لدى الآب فتجلّت لنا… لتكون لكم أيضا مشاركة معنا ومشاركتنا هي مشاركة للآب ولابنه يسوع المسيح”[29].

في أيقونة الثالوث الأقدس، يتجلّى سر الشركة في أسمى معانيه وأبلغها وأعمقها. ويكفي أن نتأمل فيها بصمت وخشوع لكي ندرك ادراكا داخليا وبديهيا ومباشرا وبعيدا عن حدود الكلمات ولبسها سر هذه الشركة الثالوثية، التي وُهبت لنا في سر شركة الكنيسة. فالشركة تتمثل في هذا الشكل الدائري الذي يضم الأقانيم الثلاثة والذي ينطلق من أخمص القدم الأيمن ليصل إلى أخمص القدم الأيسر، مرورا برأس كل اقنوم، والذي يجعلهم واحدا في ثالوثهم. وعندما نتمعن في تقاسيم الوجوه وإيماءاتها وسكونها وسكينتها، ندرك أن هذه الشركة تتشكل في أعمق المستويات الداخلية لتصل الى كيانهم الجوهري. وهي شركة تامة لا أثر للتوتر فيها، بل بالأحرى هي “نعم” دائم ومتبادل وعميق وخصب، الوحد للآخر، لا بل الواحد في الآخر. ولكن هذه الوحدة ليست تماثلا، بل هي تنوع. فالثالوث يجمع في ذاته الوحدة والتنوع، لاغيا، في تناغم وانسجام سري، التناقض بينها. في الثالوث تتساكن الوحدة (اللون المشترك) والتنوع (اللون الخاص بكل أقنوم) وتنسجم وتتنادى وتتواصل. يتصالح الواحد والمتعدد في مساحات داخلية يصعب سبر غورها بالكلمات، وتكتفي الأيقونة بكشفها لنا على شكل سر عجيب ترى الكنيسة فيه هويتها ودعوتها. لقد انخرط روبليف في تيار القديس سيرج، وجعل الثالوث الأقدس موضع تأمله الصامت والساجد والمصلي، مما مكنه من رسم هذه الشركة بهذه الدرجة من العمق والجوانية.

هذه هي كنيسة السماء في جوهرها، التي تجلّت في يسوع المسيح في كنيسة الأرض، التي تظل تجليا للشركة الثالوثية، ولكن على شكل دعوة وجهاد ووعد وهبة ونعمة. فالشركة الثالوثية هي المرآة التي ترى فيها كنيسة الأرض ذاتها وصورتها. وعلى صورة كنيسة السماء، فإن كنيسة الأرض، مع كونها واحدة، هي ايضا متنوعة: شعب واحد في مواهب متعددة، وخِدَم متعددة، وأعمال متعددة لحمتها المحبة (راجع 1 قورنتس فصل 12 و 13). وهذه الصورة الثالوثية هي صورة الكنيسة الجامعة وصورة الكنيسة المحلية، التي تجد قديما أحسن تعبير عنها في رسائل مار أغناطيوس الانطاكي. على الأرض، تعيش الكنيسة هذه الشركة في التوتر بسبب خطايا البشر، ولكنها اذا عاشت هذا التوتر في الروحيّة الثالوثية الماثلة في الأيقونة، يمكن أن يتحوّل التوتر إلى حالة فصحية يفرز دائما أشكالا جديدة من الحياة.

ولا نبتعد عن الأيقونة اذا قلنا أن هذه الأيقونة الثالوثية تجد أرفع وأسمى صورها الأرضية في الاحتفال الافخارستي. فالسر الافخارستي يحتل مكان المركز في الأيقونة. إن الخبز الواحد والكاس الواحدة هي اساس هذه الشركة (راجع 1 قورنتس 10: 16-17). في الصلاة الافخارستية الثالثة في الطقس اللاتيني، نصلي ونقول:

“اللهم،… أنعم علينا،

نحن الذين نتغذى بجسد ابنك ودمه،

بأن نمتلئ بروحه القدوس،

فنكون جسدا واحدا وقلبا واحدا في المسيح”.

 

شركة من أجل الحياة

إن الشركة الثالوثية هي شركة نحو الداخل (ad intra)، ولكنها ليست شركة مغلقة، بل منفتحة نحو الخارج (ad extra). فالدائرة فيها فتحات نحو الخارج من كل اتجاهات وفي كل الاتجاهات. فهي شركة تسبيح متبادل وشركة تقديس مشترك[30]. انها شركة من أجل الحياة: شركة/عطاء، شركة/فيض، شركة/تدفق، شركة/جود. وفي عطائها وفيضها وتدفقها لا تنتقص، بل تحقق ذاتها على أكمل وجه. إن الحياة نحو الداخل تتحوّل الى خصب نحو الخارج. وهذا ما يتمثل في شجرة الحياة (المنبثقة من اقنوم الوسط والتي ترمي جذورها في الأرض)، وفي الهيكل/الكنيسة (المنبثق من أقنوم اليسار والذي ينوه الى لمّ شمل البشرية)، وفي الحمل المتوسط في مجمل الأيقونة (الفداء وعربون المجد).

وعليه، فكنيسة الأرض، على مثال كنيسة السماء، هي

· شركة تعطي الحياة:

“وهذا يعني أن الكنيسة لا توجد من أجل ذاتها، بل لربها، ولجميع الناس الذين من أجلهم جاء (السيد المسيح) خادما ومخلصا. إنها الشركة من أجل الحياة التي تعبر عنها أيقونة الثالوث في شجرة الحياة التي تتاصل جذورها في شركة الثالوث الأقدس”[31].

وهذه الشركة تحقق ذاتها بقدر ما تكون منفتحة نحو الخارج، تحقق ذاتها ببذل ذاتها.

· شركة تجمع: فهي شركة من أجل الشركة، أي أنها مدعوة إلى لمّ شمل البشر الذين شتتهم الخطيئة، في الابن الذي جاء “ليجمع في الوحدة شمل ابناء الله المشتتين” (يوحنا 11: 52).

يقول المجمع الفاتيكاني الثاني:

“ولما كانت الكنيسة هي في المسيح بمثابة السر، أي العلامة والأداة في الاتحاد الصميم بالله ووحدة الجنس البشري برمته، فانها… تروم أن توضح بشكل أدق، لمؤمنيها وللعالم كله أجمع، طبيعتها الذاتية ورسالتها الجامعة، ولا سيما وإن الأحوال الراهنة تلح عليها بقضاء هذا الواجب لكي يتمكن الناس من أن يحققوا، هم أيضا، وحدتهم التامة في المسيح”[32].

· شركة تخلّص: يشكل الكأس، في وسط المائدة، البؤرة التي يتجه اليها مجمل أيقونة الثالوث الأقدس. وهذه البؤرة هي الحمل الذبيح الذي يحمل خطايا العالم. فالشركة الثالوثية الموهوبة للكنيسة هي شركة من أجل الخلاص، خلاصها هي وخلاص البشر أجمعين فيها وبواسطتها. فهي جماعة مخلَّصين ومخلِّصين. وهذا ما يجعل السر الإفخارستي (اسوة بسائر الأسرار الإلهية) التجلي السري (بمعنى العلامة والأداة) لهذا الخلاص. فهي القمة وهي الينبوع. وهذا ما جعل الحوار اللاهوتي بين الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية ينطلق من السر الافخارستي ليصل الى سر الثالوث الأقدس[33].

يبدو أننا ضعنا في عالم غيبي، بعيد عن الواقع الملموس. وهذا ليس صحيحا. إن تأمل سر الكنيسة في أيقونته الأصلية والأصيلة ما هو الا نقطة الارتكاز ونقطة الانطلاق من الينابيع الصافية الى الواقع البشري للكنيسة بكل تشعباته وروافده وامتداداته فيعطيه معنى جديدا فيه دعوة الى الارتداد في الرؤية والمسلك والتصرف في جميع جوانب حياة الكنيسة. وهنا ننوّه إلى أن هذا النموذج الثالوثي للكنيسة يجد له أحسن تعبير في الجماعة المسيحية الأولى التي يصفها لنا سفر أعمال الرسل (بشكل خصوصي 2: 42-47 و 4: 32-35)[34].

 

“ليكونوا واحدا”

إن الشأن المسكوني في العالم بشكل عام وفي بلادنا وكنائسنا بشكل خصوصي يتلكأ ويتخبط، وربما يتراجع أمام الحسابات البشرية الضيقة، وسجلات الربح والخسارة بحسب روح العالم، وجراح الذاكرات الجماعية، والترسبات النفسية والاجتماعية التي خلفتها فينا قرون من الانقسامات والتباعد. وقد يصل بنا الحد إلى أن نرتاح لانقساماتنا أكثر مما نرتاح لعودة الشركة الكاملة بين كنائسنا. إن مقاربة الشأن المسكوني من الزاوية البشرية يضعنا في مأزق لا يمكن الخروج منه. ولن نخرج منه الا اذا عملنا على الشفاء من هذه الترسبات البشرية (والأيقونة أيضا شفاء) من خلال التأمل في سر الوحدة القائم في الثالوث الأقدس، الذي يتجلّى في أيقونة الثالوث الأقدس. فالكنيسة “شعب واحد يستمد وحدته من وحدة الآب والابن والروح القدس”[35].

“من الأيقونة ينبثق نداء ملحاح: ‘كونوا واحدا كما أنا والآب واحد‘. فالإنسان هو على صورة الله الثالوث: الكنيسة/الشركة تنتشب بجذورها في كيانه، على أنها حقيقته الحقة. والبشر مدعوون بأجمعهم إلى الإلتئام حول الكأس الواحدة عينها، والارتقاء الى قلب الله والاشتراك في الوليمة المسيحانية”[36].

الكنيسة عائلة ولدت من الثالوث العائلة. والوحدة التي يصلي الابن من أجلها ويمنحنا اياها هي الوحدة القائمة في الأقانيم الثلاثة. كي ننقذ شركة الوحدة ما لنا الا أن ننتقل من قلوبنا المجروحة إلى أعماق قلب الثالوث.

“يقوم كيان الكنيسة بانها “شركة” (كونونيا باليونانية)، أعني حياة روحية واحدة مشتركة بين أشخاص عديدين. ليست هذه الشركة مسألة تفاهم أو تعاطف بشري فقط. إنما أساسها صلاة المسيح وما طلبه من الآب لتلاميذه: ‘ليكونوا بأجمعهم واحدا: كما أنك فيّ، با ابت، وأنا فيك فليكونوا هم ايضا فينا، ليؤمن العالم بأنك أنت أرسلتني‘ (يوحنا 17: 21). فالشركة السرية القائمة بين الآب والابن في الروح القدس هي المثال والينبوع للشركة في الكنيسة. ولهذا يكون المسيحيون شركة على صورة الثالوث الأقدس، لأنهم يشاركون في الحياة الإلهية التي قلنا أنها في حد ذاتها شركة… كل انقسام إذاً هو مناقض للدعوة المسيحية إلى الوحدة ومناقض للشركة التي تُدعي اليها الكنيسة على مثال وحدة الثالوث القدوس مثالها وينبوعها”[37].

ويكفينا هنا أن نصلي مع يسوع صلاته الكهنوتية الدائمة من أجل الوحدة. أمام أيقونة الثالوث الأقدس، تأخذ هذه الصلاة كل معانيها. فالصلاة تردنا الى الأيقونة، والأيقونة تردنا إلى صلاة يسوع. فالصلاة والأيقونة يتردد صداهما الواحدة في الأخرى، ليعلنا سر الوحدة الذي يتجذّر في الشركة الثالوثية. ترى الأيقونة نفسها في مرآة الكلمة، والكلمة في مرآة الأيقونة، والجماعة المؤمنة في كلتيهما.

“يا أبتِ القدوس، احفظهم باسمك الذي وهبته لي

ليكونوا واحدا كما نحن واحد…

كرّسهم بالحق

إن كلمتك حق.

كما أرسلتني الى العالم

فكذلك أنا أرسلتهم إلى العالم

وأكرس نفسي من أجلهم

ليكونوا هم أيضا مكرسين بالحق.

لا أدعو لهم وحدهم

بل أدعو أيضا

للذين يؤمنون بي عن كلامهم.

فليكونوا بأجمعهم واحدا:

كما أنك فيّ، يا ابت، وأنا فيك

فليكونوا هم أيضا فينا

ليؤمن العالم بأنك أنت أرسلتني…

أنا فيهم وأنت فيّ

ليبلغوا كمال الوحدة

ويعرف العالم أنك أنت أرسلتني

وأنك أحببتهم كما أحببتني” (يوحنا 17: 11، 17-21، 23)

من هذا التداخل بين الأيقونة وصلاة يسوع الكهنوتية، يمكن أن نستنتج ما يلي:

1) يتأسس سر وحدة الكنيسة ويتحقق في سر الوحدة القائمة في الثالوث، المتجسد بشكل عجيب في أيقونة الثالوث الأقدس. فالوحدة مغروسة في كيان الله الواحد والثالوث، وبالتالي مغروسة في سر الكنيسة. فهي وحدة في الكيان وفي العلاقة وفي الرسالة. ليست الانقسامات في جسد المسيح الواحد واقعا يمكن التعايش معه بارتياح، لأنها نقض ونقيض لسر الوحدة في الثالوث الذي تُدعى اليه الكنيسة. لا نستطيع أن نكون كنيسة بملء معانيها الا في قلب شركة الثالوث. وعليه فالشأن المسكوني لا يمكن أن يكون عرضا في حياتنا الكنسية نلتفت اليه في المناسبات ومن وقت لآخر وفي أوقات فراغنا، بل هو في قلب حياتنا الكنسية.

2) ما تخاف منه الكنائس هو أن تذوب الواحدة في الأخرى، وأن تبتلع الواحدة الأخرى. وهذا ليس ما نتأمله في ايقونة الثالوث الأقدس. في الشركة الثالوثية، لا تلغي الوحدة التنوع، والتنوع لا يحول دون الوحدة. في الله الواحد والثالوث، يكتمل سر الوحدة في التنوع، من غير تناقض أو الغاء او احتواء او ابتلاع أو ذوبان. فهي وحدة الواحد في الآخر ووحدة الواحد من أجل الآخر. وهي وحدة في التنوع، حيث أن وحدة الأقانيم لا تلغي تنوعهم، وتنوعهم لا يلغي وحدتهم. واذا ما عشنا التنوع بهذه الروحية الثالوثية فانه يصبح مصدر غنى متبادل بدل أن يكون مدعاة للفرقة والانقسام.

3) في الشرق، تمر الشهادة المسيحية عبر شركة الوحدة. ستظل شهادتنا منقوصة ومجروحة ومصلوبة ما لم تصبح شهادة في الوحدة والشركة: “ليؤمن العالم بأنك أنت أرسلتني” (يوحنا 17: 21).

إن أيقونة الثالوث الأقدس تردنا، بدورها، الى الأيقونة التقليدية التي تمثل الأخوين، اندراوس (كنيسة الشرق) وبطرس (كنيسة الغرب)، في عناق أخوي. وهذه الأيقونة يمكن اعتبارها امتدادا لأيقونة الثالوث الأقدس، وتشكل، بدورها، دعوة دائمة الى الشركة الكاملة والممكنة في الثالوث بين رئتي الكنيسة، الكنيسة الشرقية والكنيسة الغربية[38].

 

شركة ثالوثية من أجل الإنسان

إن التشاور الثالوثي الماثل في أيقونة الثالوث الأقدس موضوعه الانسان وخلاصه، وكأن السؤال الذي تتبادله الأقانيم الثلاثة هو: ماذا نعمل للانسان؟ الانسان في قلب السر الثالوثي، لأن اللاهوت أصبح تدبيرا خلاصيا، أي تاريخا من أجل الانسان، والانسان المعنى هو المخلوق على صورة الله ومثاله، وهذه الصورة ثالوثية.

إن التقوقع على الذات جعلنا، عن مسيحيي الشرق، نترك الانسان جانبا لكي نهتم بأنفسنا أو نقترب منه من زاوية ذواتنا. لقد أبعدنا التاريخ عن صورة الانسان، وهذه الصورة نجدها من جديد في أيقونة الثالوث الأقدس. إن أيقونة الثالوث الأقدس تؤنسن وجه الله لكي يتأله وجه الانسان.

وبالطبع الانسان المقصود هو كل انسان، ولكنه أيضا هذا الانسان، انسان عالمنا العربي، والا بقينا في العموميات والمجردات التي لا توصل الى أي هدف. ونعني بالانسان العربي ذاك

“القطاع الفعلي[…] من البشرية والذي يتحدث بلغة بعينها وله تراث ثقافي معين، كما له نظرته إلى العالم وماضيه التاريخي وتكوين إنساني خاص”[39].

وهو الشعب الذي نخاطب واقعه، ونستخدم لغته واشاراته ورموزه، ونتجاوب مع تساؤلاته، ونندمج في حياته الواقعية، مع الحرية التي وهبنا إياها المسيح والتي لا تتوانى عن النقد الايجابي لنساهم في نموه وتطوره ورقيّه[40].

وإحدى هذه المواقف الشجاعة والنبوية نجدها في الرسالة الثانية لبطاركة الشرق الكاثوليك، التي تدعونا إلى أن نخرج من ذواتنا ومن هاجس الدفاع عن حقوقنا وامتيازاتنا ومكتسباتنا، ونذهب لملاقاة هذا الانسان المتألم. لأول مرة، نجد هذا الوصف للانسان العربي بحد ذاته، بعيدا عن

“هم الدفاع عن حقوقنا كأقليات وملل… ليصل إلى حد المشاركة في الدفاع عن حقوق الانسان وتحرر الشعوب وحقها في العيش الكريم، والمساهمة في مشاريعها التنموية، والعمل على اثبات كرامة الانسان في وجه كل القوى الداخلية والخارجية التي تقمعه وتذله وتحول دون تحقيق آمانيه الانسانية المشروعة”[41].

وفي هذا المجال لا بد من الاشارة الى تلك الفقرة التي تتسم بالحس النبوي الذي ربما لم نستوعب بعد جميع ابعادها، والتي تحمل عنوان “إنسان متألم”:

“والانسان، في منطقتنا، هو انسان متألم. فقد تألّبت عليه المحن من كل جانب في تاريخه المعاصر، حتى بات يعيش تحت علامة الألم والمعاناة، ويسير في درب الآلام وهو يحمل صليبه. إنه يتألم في كيانه الداخلي بسبب القيود النفسية والاجتماعية التي لا يرى في بعض الأحيان لها مخرجا، وفي ظروف معيشته اليومية التي يصارع من أجل تحسين أحوالها في وضع محدود الإمكانيات، وفي تطلعاته الانسانية والسياسية والحضارية حيث يرى أن الآخرين يرفضون له هذا الحق، ويريدون تحجيمه وتطويعه، وفي رغبته في أن يكون له مكان على مائدة الشعوب فيسهم في تطويرها وإنمائها. إنه يتألم بسبب قيوده الداخلية او بسبب ما يُفرض عليه، أو بسبب تدخل الآخرين في شؤونه، أو بسبب نظرة الآخرين إليه، أو بسبب الأدوات القمعية التي يتعرض لها كل يوم من أهل بيته ومن الآخرين. انه ينظر الى ماضيه المجيد وحاضره الصعب ومستقبله الغامض ويتألم. وفي وسط كل هذا يتوق الى الانعتاق والتحرر كي يحقق انسانيته، ويجعلها قادرة على اتخاذ دورها في مسيرة العالم الحالي. لذا نراه يبحث بحثا قلقا عن ذاته وأصالته، وعن شخصيته ورسالته. وفي ثورة غضبه وضيقه نراه في بعض الأحيان يلجأ الى التعبير عن ذاته تعبيرا سلبيا عن طريق العنف او التطرف او العدوانية أو التعصب حيث يرى أن العالم يهدده في هويته وشخصيته وكيانه. ولعل مثل هذه الاتجاهات إنما هي تعبير ظاهر عن خوفه الخفي وقلقه وعدم استقراره”[42].

في إحدى حدائق بلدية الناصرة ينتصب تمثال ضخم تحت عنوان “خيمة هاجر”، ويمثل هاجر رافعة طفلها في وجه السماء في حالة تمرد وتوسل. يبدو أن انساننا العربي لا يزال اسماعيل الذي يقول عنه الكتاب المقدس انه

“يكون حمارا وحشيا بشريا يده على الجميع ويد الجميع عليه وفي وجه جميع أخوته يسكن” (التكوين 16: 12).

وفي معاناته ينتظر الخلاص من نفسه ومن الآخرين. وهذا هو الانسان التي تدعونا الرسالة الرابعة لبطاركة الشرق الكاثوليك إلى

“أن نتضامن معه ونخدمه، فنكون دائما في المواقع المتقدمة للدفاع عنه، عندما يجوع ويمرض وينبذ ويتعرض لجميع اصناف القهر والقمع والظلم والمعاناة”[43].

يبدو أننا ذهبنا بعيدا، ولكن قطعا ليس خارج حدود أيقونة الثالوث الأقدس. أليست هذه الأيقونة مشروع تحرر إلهي من أجل الإنسان[44]؟

 

كنائس الشرق: أيّ حضور؟

إن الحضور المسيحي في الشرق هاجس أساسي لكنائسنا ودائم التكرار في اجتماعاتنا الكنسية ومؤتمراتنا ولقاءاتنا. ومن المعروف أن بطاركة الشرق الكاثوليك خصصوا رسالتهم الراعوية الثانية لهذا الموضوع تحت عنوان “الحضور المسيحي في الشرق شهادة ورسالة”. أي حضور في عالمنا العربي؟

مما لا شك فيه أن التاريخ ظلمنا وظلمناه، فحجب رسالتنا واختزل حضورنا في هّمّ الاستمرار في الوجود. واعتقدنا في بعض الأحيان – وربما لا نزال نعتقد – أن ما يؤمِّن لنا هذا الوجود هو الأرقام والعدد والقوة المادية والمظاهر الخلابة والمؤسسات الضخمة والاستعراضات الباهرة والمُبهِرة. وما هذا التوجه الا امتداد لعقلية الطائفة التي لا تزال تقاوم عمل الروح في جسمنا الكنسي.

تنطلق رسالة بطاركة الشرق الكاثوليك من مفهوم “الحضور” لتعرّف معنى وجودنا في الشرق، بما في كلمة حضور من كثافة وعمق وتفاعل وزخم روحي وإنساني. فالوجود شيء والحضور شيء آخر[45].

إن أيقونة الثالوث الأقدس هي أعمق تعبير عن حضور الله في عالم الانسان. ففيها نقرأ حضور الثالوث في عالم الانسان وحضور الانسان في عالم الثالوث، ومعانيهما المختلفة والغنية والغزيرة. وهذا هو الحضور الذي وهبه الله وديعة في ايدي الكنيسة لتحوّله الى صيغة شهادة في عالم الانسان وفي عالمنا ومجتمعاتنا. في الأيقونة، نقرأ مباشرة ومن غير تفسير تلك المعاني الانسانية والالهية لهذا الحضور. فالأيقونة تدخلنا إلى عالم مختلف وجديد لا يعرفه العالم ولا يدركه. وعندما تغوص الكنيسة في هذا العالم متأملة وساجدة ومصلية، فإن السر الثالوثي يتسرب إلى عروقها وشرايينها ومسام جسدها وينقيها من الداخل ويشفيها، ومن ثم يرسلها الى العالم لتشهد لهذا العالم المختلف وسط عواصف التاريخ وأمواجه. نقرأ في الأيقونة المعاني الإلهية/الانسانية، من لطف، وحنان، ورحمة، وتواصل، وحب. ففي عالم قاس لا يعرف الرحمة، تشهد الكنيسة لحنان الله لهذا العالم. وفي عالم لا يعرف الا العنف، تشهد الكنيسة للطف الله وحلمه. وفي عالم من الاستثناء والالغاء، تشهد الكنيسة لحب الله الشامل والجامع. وفي عالم يضع الحدود والسدود بين البشر، تشهد الكنيسة للتواصل بين البشر. وفي عالم يعتبر الحب عاطفة لا ضرورة لها في عصر التكنولوجيا والعلم، تشهد الكنيسة أن الحب هو المحرك لحياة الثالوث وهو المحرك لحياة العالم وأنه طاقة تاريخية تصنع الحدث وتفتح في التاريخ تيارات لا يستطيع الانسان أن يعيش بدونها. فهو، بالتالي، شهادة الكنيسة بامتياز.

وهنا، قد يكون من المفيد أن نعود مرة أخرى إلى الحيثيات التاريخية التي رسم فيها اندريه روبليف أيقونته. أندريه روبليف لم يعش على هامش التاريخ، بل شاهد كل البشاعات التي عرفتها الفترة التي عاش فيها والتي قد تكون قد ضربته هو ايضا في جسده. وعندما رسم ايقونته، لم يرد أن يرسم عالما ورديا خياليا، بل أراد أن يرسم نقيض هذا العالم، وصورة مغايرة لما يمكن ويجب أن يكون عليه هذا العالم. لعله يريد أن يقول لنا أن الكلمة الأخيرة ليست للبشاعة، بل للجمال (“الجمال سيخلص العالم”، كما يقول دوستويفسكي)، وأن الحب يدخل في جدلية التاريخ ليكسر ما في هذا التاريخ من عنف وقسوة وبغضاء. “ونحن شهود على ذلك” (أعمال الرسل 2: 32).

وفي الفلم “أندريه روبليف” الذي ذكرناه آنفا، يصوّر المخرج الروسي تاركوفسكي جميع هذه البشاعات من حروب وأوبئة وعداوات بين الأمراء المتنافسين. وفي نهاية الفلم، يكتفي بأن يصوّر على حجم الشاشة كلها عدة أيقونات، منها ايقونة الثالوث الأقدس من جوانبها المختلفة على خلفية موسيقى دينية معبّرة. ولعله يريد أن يقول أن هذا هو جواب الله الواحد والثالوث على جميع هذه البشاعات. في الفلم، يقتل روبليف مقاتلا للدفاع عن صبية كان الجندي يريد اغتصابها. وقد هزّه هذا الحادث وحمله على الكف عن الرسم. ولكنه، عندما رأى شابا يسكب جرسا ضخما متحديا الموت، استيقظ فيه الأمل من جديد وعاد الى الرسم، وتوجّه الى الشاب وقال له: “أنت تعود إلى سكب الأجراس، وأنا أعود إلى رسم الأيقونات”. وكأن المُخرج يريد أن يقول لمشاهديه أن شعلة الأمل لا يمكن أن تنطفئ.

هذه المعاني التي رسمها روبليف بريشته، رسمها السيد المسيح بالكلمات، وذلك في التطويبات الانجيلية (متى 5: 1-12). ما نتأمله في الأيقونة، نجد معانيه في التطويبات، التي ترسم بالكلمات ملامح الشهادة التي يُدعى المسيحيون إلى تأديتها في العالم. وفي الشرق، تكتسب هذه التطويبات معنى خاصا. وهنا نستشهد برسالة بطاركة الشرق الكاثوليك، في معرض كلامها عن علاقتنا بالاسلام:

“لن تأخذ العلاقة بين المسيحيين والمسلمين وجهة ايجابية وحاسمة ما لم يعد المسيحيون من جانبهم الى الينابيع الصافية للقيم الانجيلية، التي تتمثل في العظة على الجبل (راجع متى فصل 5-7) وبالأخص التطويبات الانجيلية التي افتتح بها يسوع هذه العظة، والتي تظل النهج الحياتي للمسيحي. ولقد لخص القديس بولس هذه القيم الانجيلية في رسالته الى أهل غلاطية: “أما ثمر الروح فهو المحبة والفرح والسلام والصبر واللطف وكرم الأخلاق والإيمان والوداعة والعفاف” (5: 22)[46].

وبما أن الحديث هنا عن شهادتنا في العالم الاسلامي، فيمكن القول أن اقلامنا المسيحية اهترأت عبثا في الشرق ونحن نفسر لأخوتنا المسلمين سر الثالوث الأقدس، ولا نزال حيث نحن. لقد حان الوقت أن نتكلم أقل عن الثالوث الأقدس وأن نشهد له أكثر بحياتنا وتصرفاتنا وقيمنا المستمدة من حياة الثالوث. وإذا لا بدّ من شرح، فهو بحاجة إلى سند من شهادتنا الحياتية. إن الشهادة الصامته للمعاني الكامنة في أيقونة الثالوث الأقدس هي أعلان حقيقي من خلال الحياة. من هنا يمكن القول أن الحياة النسكية هي أسمى اشكال حضورنا في الشرق. وهذا ما يدعونا إلى إعادة النظر في رؤيتنا للحياة النسكية لتكون ما كانت عليه في كل العصور – ومنها عصر اندريه روبليف – شهادة حية لشيء مختلف لا يعرفه العالم ولكن يتوق اليه ويناديه من أعماق وجدانه من غير أن يدري. والشهادة النسكية تجد امتدادها في الشهادة المسيحية في الحياة اليومية التي تستمد زخمها من التأمل والصلاة[47].

إن الشهادة المسيحية المدعوة اليها كنائسنا في الشرق ترمي جذورها في الحياة الثالوثية، بعيدا عن معايير الربح والخسارة بحسب روح العالم، بل بالأحرى بحسب معايير الربح الخسارة الكامنة في المفارقة الانجيلية، حيث من يخسر يربح، ومن يربح يخسر (راجع متى 16: 25-26).

القسم الرابع

الثالوث الأقدس أو الغيّرية المصالَحة

الغيريّة… هذه القضية الكبرى

إن الغيرية (علاقتنا بالغير بالآخر)، هي القضية الكبرى التي تواجه البشرية في كل زمان ومكان، وهي القضية الكبرى التي تواجه البشرية اليوم بشكل أكثر الحاحا من أي وقت مضى، بسبب وسائل الاتصال والنقل والاختلاط بين الأمم وحركة الشعوب المستمرة في كل الاتجاهات، بين الشرق والغرب ذهابا وإيابا، وبين الشمال والجنوب ذهابا وإيابا، وبين شواطئ البحر المتوسط في جميع الاتجاهات. وهي قضية القضايا في عالمنا العربي وفي كنائسه. فهي قضية القضايا في مجتمعاتنا المتعددة، وفي كنائسنا (في كل كنيسة على حدة، وبين العائلات الكنسية المتجانسة إيمانيا، وبين العائلات الكنسية المنقسمة)، وايضا في قلب كل واحد منا. ويبدو أننا كمجتمعات وكنائس لم نتصالح بعد تماما مع هذه الغيرية، التي يبدو أننا نعتبرها جرحا لم نُشف منه وصليبا لا مجد فيه، لأننا نرفضه (راجع مرقس 8: 31-37). وهذا ما يضعنا في مأزق، عاجزين عن إدارة هذه الغيرية أو التعددية بطريقة مجدية وسليمة وخصبة.

في وسط هذه الاشكالية، تحلّ أيقونة الثالوث الأقدس كعلامة نور، وكدعوة وشهادة. فالأيقونة دعوة إلى الخروج من الذات إلى ما هو أبعد منا. وعندما نتأمل في وجه الله الواحد والثالوث، نكتشف وجهنا ووجه الآخر تحت ضياء نور جديد.

في هذا القسم الأخير، نواجه هذه الاشكالية في ضوء أيقونة الثالوث الأقدس، عبر مجموعة من الثنائيات التي تبدو متناقضة، والتي تجد تصالحها في السر الثالوثي:

 

بين الواحد والمتعدد

إن السؤال الكامن في الغيرية هو: كيف يمكن أن يكون المتعدد واحدا؟ كيف نوفِّق بين التعددية والوحدة؟ وللجواب على هذا السؤال، نجد أنفسنا أمام اتجاهين أساسيين يقودان الى الموت، وثالث يبشر بالحياة. الأول هو الغاء التعددية في سبيل الوحدة، على اعتبار أن المتعدد تهديد للواحد، وبالتالي يجب الغاؤه، ولو بالقوة الغاشمة (التمييز العنصري، الإبادة الجماعية، التطهير العرقي…). والثاني هو الغاء الواحد حفاظا على المتعدد، على اعتبار أن الوحدة تهديد للتعددية، وهذا ما يؤدي الى الشرذمة والتباعد والمعاداة والعدوانية. أما الخيار الثالث فهو خيار الواحد والمتعدد معا، وهو الخيار الذي يمسك بطرفي المعادلة، الواحد من جهة، والمتعدد من جهة أخرى، من غير أن يكون أي طرف على حساب الطرف الآخر. وهذا هو الخيار المتمثل في ايقونة الثالوث الأقدس. ولقد سبق وتناولنا انسجام الوحدة والتعددية أو التنوع في الثالوث الأقدس لدى كلامنا في الوحدة والتنوع في الكنيسة. وهذا ما ينسحب أيضا على الوحدة والتعددية في المجتمع، ولا حاجة الى العودة من جديد الى هذا التناغم بين الواحد والمتعدد.

 

بين المحاذاة والمساكنة

تجلس الأقانيم الثلاثة حول مائدة واحدة، ولكن الحركة الداخلية المنبثقة من الأيقونة بمجملها تظهر بوضوح أنهم ليسوا بمحاذاة بعضهم البعض، بل الواحد في الآخر من غير أن يذوب فيه ومن غير أن ينفصل عنه. وأكثر من كون الواحد في الآخر، فالواحد هو من أجل الآخر، من غير أن يؤدي العطاء الى نقص او حرمان او فقدان. فكل أقنوم يحقق ملء ذاته في الآخر، بفضل الحب الذي يحوّل العلاقة ملءاً. وهذا ما يعبر عنه اللاهوت الثالوثي بكلمة (circumincession – périchorèse)، التي تعني تواجد أو تساكن او تداخل الواحد في الآخر، بجوانية متبادلة[48]. بالمحاذاة يكون الواحد بجانب الآخر، من غير شركة أو مشاركة حقيقية، ويمكن أن يكون في حالة غربة عن الآخر. أما المساكنة فتعني أن يسكن الواحد الآخر (“الأب فيّ وأنا في الآب” يوحنا 10: 38، وكذلك 14: 10، 11؛ 17: 21). في التساكن تواصل دائم في العمق، كالأواني المتصلة التي تسري فيها الحياة من الواحد للآخر، في حركة حب متبادل. في المساكنة أفتح للآخر مداي الداخلي، ويفتح لي هو أيضا مداه الداخلي فنتشارك في الغني الكامن في كلينا. في هذه الحالة، لا يتناقض غنى الواحد مع غنى الآخر ولا يلغيه. إن المساكنة هي سير الواحد في الآخر، وسير الواحد من أجل الآخر، في دينامية حياة وسخاء حب لا ينتقص ولا يتناقص.

 

بين التماثل والتمايز

إن العلاقة بالآخر تندرج في دينامية التماثل والتمايز. فهي قبول القواسم المشتركة بيني وبين الآخر، وقبولها ليس دائما بالشيء السهل، لأن المشترك بيننا قد يتحدى هويتي وأصالتي ويزعزعها. وعليه، لا أريد أن أرى في الآخر ما هو فيّ، وهذا ما يؤدي الى التنافس. ولكن النقيض هو البحث المستميت عن التماثل الكامل كي ألغي كل ما هو مختلف بيننا على اساس أن الاختلاف تباعد. فلكي أدخل في علاقة بالآخر، يجب أن يكون مثلي في كل شيء والا فاني اميل الى الغائه ويميل الى الغائي، لأننا نرى الاختلاف تعديا وتهديدا متبادلين. من هنا ضرورة استيعاب المشترك والمختلف في آن واحد. فالعلاقة السليمة تتأسس على قبول الاختلاف والفرح به، على اساس أن الآخر مختلف والا لما كان آخرا.

هذا التناغم العجيب والحميم والفريد بين المشترك والمختلف نجده في الثالوث الأقدس، حيث المشترك لا يلغي المتمايز والمتمايز لا يلغي المشترك، بل ينسجمان انسجاما عجيبا يجعل العلاقة دينامية مستمرة لا يحول المختلف أو المشترك دون زخمها، بل، بالأحرى، يساهم في نموها وتطورها. فالواحد متماثل مع الآخر بحكم الطبيعة الالهية الواحدة. والواحد متمايز عن الآخر بحكم الأقانيم الثلاثة. فاللون الواحد لا يلغي الالوان المختلفة. إن الأخوّة البشرية هي شهادة لتلك العلاقة المتبادلة بين الأقانيم الثلاثة في ملء التماثل والتمايز.

بين الهوية المغلقة والهوية العلا قية

في عالم اليوم يتم التركيز على الهوية الجماعية، في ظل عولمة تريد أن تسوّي كل شيء. وراح العنصر الديني يأخذ حجما كبيرا في تحديد هذه الهوية. وهنا تبدأ المشاكل، أي الصراعات بين الهويات المختلفة. فهوية الواحد تميل الى الغاء هوية الآخر وكأنها تهديد لهويته. فالهويات هنا متنافرة ومتناحرة ومستثنية. هذا ما يدعوه أمين معلوف “الهويات القاتلة”.

وهنا، لا بد من التمييز بين الهوية المغلقة والهوية العلاقية. الهوية المغلقة تتطور في دائرة مقفلة وتؤدي الى الاقتتال، لأنها تنصّب ذاتها مطلقا أمام مطلق آخر ولا مجال لتلاقيهما أو تعايشهما أو عيشهما الواحد. في هذه الحالة، الباب مشرّع للتنافس والعداء والالغاء. في هذا الإطار يندرج الصراع بين الحضارات. أما الهوية العلاقية فإنها تقوم على أنني لا استطيع أن اطور هويتي الا في علاقة بالآخر. فالآخر يدخل في التركيبة الداخلية لهويتي من غير أن يهددها أو ينتقصها أو يلغيها[49]. الهوية العلاقية تجمع بين الهوية من جهة، والعلاقة من جهة أخرى، في دينامية مستمرة نامية. من هنا يمكن القول أن لا هوية ثابتة ثبوت الجمود، بل كل هوية هي دائمة النمو والتطور في إطار من التفاوض المستمر بيني وبين الآخر[50].

يجب القول إننا أمام جدلية دقيقة وشاقة وعسيرة، ولكنها ممكنة. وهذا ما يتجلّى في الثالوث الأقدس، حيث يجد الواحد هويته في الآخر من غير ذوبان أو الغاء أو انفصال، مما يجعل الثالوث الأقدس نموذجا لأية علاقة بالآخر. فالهوية والعلاقة تتناغمان في مستويات داخلية عميقة، وهذا هو السر بالذات. وهنا، لا بد من إضافة ما هو هام. الهوية تأتي من “هو” غامض ومبهم وبعيد ولاشخصي. واذا لم تتحول هذه الهو-ية، التي لا وجه لها، إلى أنت-وية (مِن “أنت”) متشخصنة فمن الصعب أن تتحوّل الى نحن-وية (مِن “نحن”). فالهوية العلاقية تتم بين أشخاص، أو بين جماعات متشخصنة[51]. في الهوية العلاقية، لا تذوب الهوية، بل تتحوّل الى شركة.

 

بين الإدانة والحنان

الآخر مدان لأنه مختلف عني، ومدان أيضا لأنه شبيه بي. لا اسمح له بأن يكون مختلفا عني ولا شبيها بي. في كلتا الحالتين، نجد أنفسنا في حالة صراع بين المتشابهين والمختلفين. كيف نتجاوز هذا الصراع؟ – بالحنان. الحنان يعطي الآخر وجها ويخرجه من الابهام واللاشخصانية، ويجعله وجها وشخصا[52]. الحنان يجعل الآخر انسانا. وهذا ما يسميه محمود درويش الآخر الانساني[53]. وعندما نتأمل في أيقونة الثالوث الأقدس، نجدها عبقة بالانسانية والحنان الذي يرتسم على أوجه الأقانيم الثلاثة، حنان نحو الداخل وحنان نحو الخارج (والحركتان متلازمتان ومتكاملتان)، وكأن الواحد يقول للآخر “أنت” وكأن الواحد يقول للآخر “نعم”. فعندما خلق الله الانسان على صورته ومثاله جعل له وجها وخصه بالحنان الذي يشخصنه: “أتنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى ولو نسيت النساء، فأنا لا أنساك. هأنذا على كفيّ نقشتك” (اشعيا 49: 15-16). ويبدو أن روبليف قصد أن يعطي أوجه الأقانيم الثلاثة وجها أنوثيّا يعبر عن هذا الحنان. وهذا ما يظهر أيضا في لوحة ربمبراندت “الابن الشاطر” حيث رسم يدا الأب التي تحتضن الأبن العائد، الواحدة على شكل يد رجل والأخرى على شكل يد امرأة[54].

 

بين “وجها لوجه” و “معا من أجل”

يضع الحوار طرفين الواحد مقابل الآخر. والخطر هو أن يتحول هذا الحوار الى نرجسية بالمثنى حيث يتأمل الواحد بصورته في الآخر، أو أنانية متبادلة فيبحث الواحد عن مصلحته في الآخر، بينما يحترق العالم حولهما. يتخلص الحوار من هذه النرجسية أو الأنانية عندما يكون الحوار “من أجل” أو “في سبيل”، لا “ضد” أو “على حساب”. في أيقونة الثالوث الأقدس الحوار بين الأقانيم (نحو الداخل) يتحول الى حوار من أجل أو في سبيل (نحو الخارج). والحركة ذاتها التي تدفع الواحد نحو الآخر هي التي تدفعهم جميعا نحو الخارج، أي الانسان. كثيرا ما تستعمل رسائل بطاركة الشرق الكاثوليك هذا التعبير “من أجل الانسان”[55]. في هذه الحالة يتحول الحوار، لا ضد طرف ثالث، بل شهادة مشتركة أمام العالم، والتزاما مشتركا في سبيل الفقراء والمهمشين والمنبوذين والمقموعين والقابعين تحت جميع اشكال القمع والحرمان. عندما لا يتحول الحوار “من أجل”، يمكن أن ينتهي به الأمر الى الدوران في حلقة مفرغة مملة.

خاتمة

على الأيقونة مسحة من الحزن والكآبة، وكأنها تعبير لاواعٍ، عند راسم الأيقونة، عن الحنين الى هذا العالم الجميل الذي يبدو بعيدا عن متناول البشر. وهنا لا بد من التمييز بين الطابع التاريخي للأيقونة والطابع الأخروي. ليست الأيقونة صياغة لعالم خيالي صعب المنال، بل هي ايقونة لعالم الانسان. يتأمل المؤمن في هذه الأيقونة ليستمد منها أملا ورجاء يحوله الى التزام يومي في التاريخ. ولكن الصورة، في هذا التاريخ، تظلّ غير مكتملة. وهذا ما يقودنا الى الطابع الأخروي لهذه الأيقونة حيث انها ستتجلى بكل بهائها وملئها في آخر الأزمنة عندما يكون “الله كلا في الكل” (1 قورنتس 15: 28). على الأرض نتأملها في ظلمة الحواس ووسط اضطرابات هذا العالم وفي آنية من خزف. أما في الملكوت فنعيش ملأها في العرس الأبدي حول الحمل (راجع رؤيا 19: 1-10). وهذا ما يجمع بين الأمل والعمل.

سنة 1937 رسم الفنان الاسباني العالمي بابلو بيكاسو لوحته الشهيرة “غيرنيكا” حيث صوّر بشاعة الحرب الإهلية الاسبانية. في هذه اللوحة يمكن أن نلمح شكلا مثلثا يتكوّن من الأشلاء التي تتناثر في اللوحة، وكأنه مثلث موت. مع أيقونة روبليف، ننتقل من مثلث الموت الى ثالوث الحياة. واذا كانت لوحة بيكاسو معلقة في أحد قاعات الأمم المتحدة، فمن الضروري تعليق أيقونة الثالوث الأقدس بجانبها كي تتذكر الأمم أن الكلمة الأخيرة هي لثالوث الحب، وليس لمثلث الموت. على عتبة الألفية الثالثة، لا تزال أيقونة الثالوث الأقدس لروبليف تؤدي رسالتها: تواجه، بألوانها الفَرِحة، الموت بالحياة، والعتمة بالبهاء، والبشاعة بالجمال.

 

قدوس أنت يا الله

قدوس أنت يا قوي

قدوس يا من لا يموت

ارحمنا.

مراجع

1) المجمع الفاتيكاني الثاني، دساتير – قرارات – بيانات، الترجمة تحت اشراف الأب حنا الفاخوري، منشورات المكتبة البوليسية 1992، وبشكل خصوصي “دستور عقائدي في الكنيسة”، ص33-116، “الكنيسة في عالم اليوم”، ص 199-314.

2) مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، الرسائل الراعوية المشتركة، وبشكل خصوصي “الرسالة الأولى” (1991)، الرسالة الثانية “الحضور المسيحي في الشرق رسالة وشهادة” (1992)، الرسالة الثالثة “معا أمام الله في سبيل الانسان والمجتمع: العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين في العالم العربي” (1994)، الرسالة الرابعة “سر الكنيسة” (1996)، الرسالة الخامسة “الحركة المسكونية” .(1999)

3) مجلس رؤساء الكنائس الكاثوليكية في الأرض المقدسة، المخطط الرعوي العام، القدس 2000، وبشكل خصوصي الفصل الخامس “الشركة في الكنيسة وأدواتها”، ص 65-74.

4) Boris Bobrinsky, Le Mystère de la Trinité, Cerf 1986.

5) J. Moltmann, Trinité et Royaume de Dieu, Cerf 1984.

6) مجموعة من المؤلفين، الثالوثيات: مقاربات معاصرة، مجلس كنائس الشرق الأوسط 1994.

7) مجموعة من المؤلفين، تقديم الثالوث القدوس للفكر المعاصر، مجلس كنائس الشرق الأوسط، 1991.

8) Paul Evdokimov, L’art de l’icône: théologie de la beauté, Desclée 1972.

9) Daniel-Ange, L’étreinte de feu: l’icône de la Trinité de Roublov, Le Sarment 2000.

10) Frere Benoit Sebire, Roublev’s Icon of the Trinity: An initiation into the mystery of God, Translation from the French original by R. S., article polycopié.

11) دانيال روسو، الأيقونة بهاء وجهك، نقله الى العربية مشير باسيل عون، الكسليك – لبنان 2004.

12) الأخت ماري بول، الأيقونة وحي، نقله الى العربية المطران فرنسيس البيسري، منشورات المركز الكاثوليكي للتعليم المسيحي في لبنان 2005.

13) ايما غريّب خوري، الأيقونة: شرح وتأمل، منشورات النور 1999.

14) Le Hiéromoine Cyrille, L’icône de la Trinité de Roublev dans la tradition orthodoxe, trouvé sur Internet.

15) Père Lev Gillet, La signification spirituelle de l’icône de la Sainte Trinité d’André Roublev, trouvé sur internet.

16) Leonide Ouspensky, André Roublev, trouvé sur Internet

17) Andrey Tarkovsky, Sculpting in Time: Reflections on the Cinema, translated from the Russian by Kitty Hunter-Blair, The Bodley Head, London 1987.

18) Francis Moury, Andreï Roublev de Tarkovski, trouvé sur Internet.

19) Maximilian Le Cain, Andrei Tarkovski, trouvé sur Internet

§ دكتوراه في اللاهوت، عضو مجلس أمناء مركز اللقاء للدراسات الدينية التراثية في الأرض المقدسة، محاضر في جامعة بيت لحم وكلية اللاهوت/عبلين. القيت هذه المحاضرة في مؤتمر لاهوتي حول الثالوث الأقدس في غزير (لبنان)، في نيسان 2006. (نشر هذا المقال في مجلة اللقاء، العدد الثاني، 2007)

 

[1] الرسالة الأولى لبطاركة الشرق الكاثوليكي (1991)، الفقرة الثانية.

[2] الرسالة الثانية لبطاركة الشرق الكاثوليك، الحضور المسيحي في الشرق شهادة ورسالة (1992)، رقم 13.

[3] المرجع نفسه، رقم 13.

[4] راجع الأخت ماري بول، الأيقونة وحي، نقله الى العربية المطران فرنسيس البيسري، منشورات المركز الكاثوليكي للتعليم المسيحي في لبنان 2005، ص 7-8، 30-31.

[5] راجع دانييل روسو، الأيقونة بهاء وجهك، نقله الى العربية مشير باسيل عون، منشورات جامعة الكسليك 2004، ص 178-180.

[6] ورب معترض يقول: اذا كانت الطبيعة الالهية لا يمكن ادراكها، فلماذا نتحدث عنها؟ فهل لأني لا استطيع أن اشرب النهر كله، ألا يمكنني أن آخذ منه حاجتي؟ وهل لأنه ليس في سعة العيون كلها استيعاب الشمس كلها، ألا أستطيع أن أنظر اليها ما فيه الكفاية لفائدتي الخاصة؟ وإذا دخلت حديقة عظيمة ولم اقدر أن آكل من كل ثمارها، فهل تريد أن أخرج منها جائعا؟ إذن لأسبح خالقنا وأمجده… وأنا أسعى إلى تسبيح الرب لا إلى تفسيره…” كيرلس الأورشليمي، العظات، العظة السادسة، رقم 5، تعريب الأب جورج نصور، الكسليك 1982، ص 91-92.

[7] الأخت ماري بول، المرجع نفسه، ص 8، 31.

[8] Cité par Daniel-Ange, L’étreinte de feu: L’icône de la Trinité de Roublov, Le Sarment 2000, p. 68.

[9] تذكر الوثائق المعاصرة أن اندريه روبليف، أسوة بزميله في رسم الأيقونات، كان يمضي أوقات استراحته وأيام الأعياد أمام الأيقونات المقدسة، متأملا في نورها اللامادي والإلهي: راجع: Daniel-Ange, op. cit., p. 91

[10] في إحدى مقابلاته الأسبوعية (الأربعاء 29 آذار 2006) أشار البابا بندكتس السادس عشر، في معرض كلامه عن الشركة في الكنيسة، إلى هذا الناسك الروسي ليقول كيف أن الثالوث الأقدس تحوّل في حياته إلى مشروع سلام، لأن الشركة مع الآب والابن والروح القدس تعد البشر للسلام، لأنها تجمع الأمم وتلغي العزلة التي تشكل الشر الذي يهدد العالم بأسره: عن Zenit.

[11] إيما غريّب خوري، الايقونة: شرح وتأمل، منشورات النور 1999، ص 116.

[12] راجع: Leonide Ouspensky André Roublev, trouvé sur Internet; Daniel-Ange, op. cit., pp. 89-105.

وكذلك، ايما غريّب خوري، المرجع المذكور، ص 115-117.

[13] راجع: Frere Benoit Sebire, Roublev’s Icon of the Trinity: An Initiation into the Mystery of God, Translation from the French original by R. S., article polycopié, p. 5.

[14] يقول اندريه تاركوفسكي، المخرج الروسي لفلم “أندريه روبليف”: ها هوذا الثالوث، في نهاية المطاف، قمة حياة أندريه ومعناها، ذاك الثالوث العظيم الهادئ الذي تنغلّ فيه هزّة الطرب إزاء الأخوّة البشرية. إنه تجزّءٌ جسدي لكائن واحد الى ثلاثة، وتوحّدٌ مثلث يبرز وحدة تطلّ عجيبة إلى مستقبل ما فتئ مبعثرا في ما بين القرون”: ورد القول في: رسو، المرجع المذكور، ص 212. نزعت الأيقونة من بيئتها الطبيعية، ألا وهي اكونوستاس كنيسة الثالوث الأقدس، لتجد مكانها اليوم في رواق ترتياكوف في موسكو.

[15] راجع: Leonide Ouspensky, ibid. . سنة 1904، قامت لجنة مختصة بترميم الأيقونة. وعندما ظهرت في كل بهائها الأصلي، قال هؤلاء: “نستطيع القول بالتأكيد انه لا يوجد شيء يشابه هذه التحفة الفنية من حيث التلخيص اللاهوتي والغنى الرمزي والجمال الفني”: راجع: إيما غريّب خوري، المرجع المذكور، ص 115.

[16] راجع: Andrey Tarkovsky, Sculpting in Time: Reflections on the Cinema, London 1987, p. 89.

وعن معنى الفلم بالنسبة للمخرج، راجع الصفحات: 34-35، 78-80، 89-90، 168، 186، 205. يقول المخرج عن خبرة اندريه روبليف: “فقط بعد أن مرَّ في دوائر الألم، أسوة بشعبه، وبعد أن فقد إيمانه بفكرة الخير الذي لا يمكن أن يتفق مع الواقع، يعود أندريه من جديد إلى النقطة التي انطلق منها: إلى فكرة الحب والخير والأخوّة. لقد اختبر الآن اختبارا شخصيا الحقيقة الكبيرة والسامية لهذه الفكرة التي تعبر عن تطلعات شعبه المعذب” المرجع المذكور، ص 89-90.

[17] يقول بوريس بوبرينسكوي: “إن الأبعاد الانتروبولوجية لسر الثالوث لا حد حصر لها”: Boris Bobrinskoy, Le Mystère de la Trinité, cours de théologie orthodoxe, cerf 1986, p. 12.

[18] راجع:Daniel-Ange,op .cit., p : 66 . يقول القديس سيرجيوس: “إن التأمل في الثالوث الأقدس يجعلنا نتغلب على سخريات العالم البغيضة” cité par Id., p. 86.

[19] راجع: Paul Evdokimov, L’art de l’icône, théologie de la beauté, Desclée 1972, p. 205.

[20] “تعبر أيقونة الثالوث الأقدس لروبليف أحسن تعبير عن دائرة الحب الإلهية التي تنفتح لاستضافة البشرية داعية إياها إلى المائدة الثالوثية الأبدية”: Bobrinskoy, op. cit., p. 20; aussi p. 145.

[21] لعل يوحنا اللاهوتي هو الانجيلي الذي يعبّر أحسن تعبير عن هذا التفاوض باستعماله المتكرر لتعبير “كما… كذلك” (راحع، على سبيل المثال، 6: 57؛ 10: 14-15؛ 17: 18، 21).

[22] Daniel-Ange, op. cit., p. 110.

[23] رقم 22 (“المسيح الانسان الجديد”في ختام الفصل الأول حول “كرامة الشخص البشري”)، رقم 32 (“الكلمة المتجسد والتضامن البشري” في ختام الفصل الثاني حول “الجماعة الإنسانية”)، رقم 38 و 39 (“النشاط الإنساني واكتماله في السر الفصحي”، “أرض جديدة وسماء جديدة”، في ختام الفصل الثالث “النشاط الإنساني في الكون”)، رقم 45 (“المسيح الألف والياء” في ختام الفصل الرابع “دور الكنيسة في عالم اليوم”)، رقم 57 (“الايمان والثقافة” في سياق الفصل الثاني من القسم الثاني حول “انطلاق الثقافة”)، رقم 72 (“النشاط الاقتصادي وملكوت المسيح” في ختام الفصل الثالث من القسم الثاني حول “الحياة الاقتصادية الاجتماعية”)، رقم 93 (“وجوب بناء العالم والسير به الى غايته” في ختام الوثقة كلها).

[24] P. Teilhard de Chardin, Le Milieu Divin, Seuil 1957, p. 137-138

[25] بطاركة الشرق الكاثوليك، سر الكنيسة (1996)، رقم 11. راجع ايضا: الأب رفيق خوري، كنائس أم طوائف… رؤية مستقبلية، مجلة اللقاء، 1-2/2005، ص 32-54.

[26] سر الكنيسة، رقم 17.

[27] المرجع نفسه، رقم 18.

[28] Evdokimov, op. cit., p. 205

[29] سر الكنيسة، رقم 22.

[30] راجع: سر الكنيسة، رقم 22.

[31] المرجع نفسه، رقم 35.

[32] المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الكنيسة، رقم 1.

[33] راجع الوثيقة الأولى لهذا الحوار “سر الكنيسة والافخارستيا على ضوء سر الثالوث الأقدس”، مجلة “اللقاء” (القدس)، عدد 3/94، ص 42-51. نقرأ في هذه الوثيقة: “ان الاحتفال الافخارستي بشكله الإجمالي يوضح الطابع الثالوثي للكنيسة… في الافخارستيا يتحد المؤمنون بالمسيح الذي يقدم ذاته للآب معهم… هذا الاكتمال في الوحدة التي هي من صنع الآب والابن والروح متحدين وعاملين وفقا لمخطط الآب وبالارتباط معه هي الكنيسة في ملء كمالها” (ص 44-45).

[34] راجع” سر الكنيسة، رقم 37-38.

[35] دستور عقائدي في الكنيسة، رقم 4.

[36] P. Evdokimov, op. cit., p. 205.

[37] سر الكنيسة، رقم 25.

[38] وهي “الأيقونة” عينها التي نراها في عناق البابا بولس السادس والبطريرك اثيناغوراس على جبل الزيتون سنة 1964.

[39] بولس السادس، دعوة رسولية من أجل اعلان الانجيل، رقم 62.

[40] راجع: المرجع نفسه، رقم 63. وهذا هو الانسان الذي يدعونا يوحنا بولس الثاني إلى أن نشهد له عبر الالتفات الى الاشخاص، والالتزام بقضايا الانسان وحقوقه ورقيه، متخذين المواقف الشجاعة النبوية في مواجهة السلطة السياسية والاقتصادية، ووقوفنا بجانب الفقراء والصغار والمتألمين، ليكون المسيحيون علامات انجيلية في وطنهم ووسط شعبهم: راجع: يوحنا بولس الثاني، رسالة الفادي، رقم 42-.43

[41] الحضور المسيحي في الشرق، رقم 55.

[42] المرجع نفسه، رقم 53.

[43] بطاركة الشرق الكاثوليك، معا أمام الله في سبيل الانسان والمجتمع: العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين في العالم العربي” (1994)، رقم 47.

[44] يقول ليوناردو بوف: “إن الثالوث هو مشروعنا الاجتماعي الحق”: راجع: الثالوثيات: مقاربات معاصرة، ص 113.

[45] راجع: الحضور المسيحي في الشرق، رقم 17-20.

[46] معا في سبيل الانسان والمجتمع، رقم 46.

[47] راجع: الحضور المسيحي في الشرق، رقم 24-25.

[48] راجع: K. Rahner/H. Vorgrimler, Petit dictionnaire de théologie catholique, «cicumincession», p. 76. أما الكلمة اليونانية فإنها توحي بالرقص.

[49] وهنا نلفت النظر الى ما يقوله بطاركة الشرق الكاثوليك في سياق عرضهم للعلاقات الاسلامية المسيحية في العالم العربي: “إن المسيحيين في الشرق هم جزء لا ينفصل عن الهوية الحضارية للمسلمين، كما أن المسلمين في الشرق هم جزء لا ينفصل عن الهوية الحضارية للمسيحيين”: “الحضور المسيحي في الشرق”، رقم 48.

[50] راجع: الأب رفيق خوري، مفردات للدخول في عالم الآخر، في “تجسد كنائس الشرق في الخيمة العربية”، منشورات اللقاء 1998، ص 293-305.

[51] راجع: P. Du Brul, The Holy Trinity : Obstacle or Path to Interreligious Dialogue with a commentary on John Milbank’s Theology and Social Theory: Beyond Secular Reason, Al-Liqa’ Journal, 14-15/2000, p. 203-219.

[52] راجع عن ثقافة الوجه: معا أمام الله في سبيل الانسان والمجتمع، رقم 24.

[53] راجع الحوار مع محمود درويش، في مجلة “مشارف”، عدد 3/95، ص 74.

[54] يقول القديس كليمندس الاسكندري: “بالوهيته السريّة، الله أب. ولكن الحنان الذي يكنّه لنا يجعله أمّا. الأب يتأنثن وهو يحب”: Cité par Daniel-Ange, op. cit., p. 108.

[55] راجع، على سبيل المثال لا الحصر: الحضور المسيحي في الشرق، رقم 55؛ معا أمام الله في سبيل الانسان والمجتمع، رقم 47.

Related Articles