خطاب غبطة البطريرك غريغوريوس الثالث
بمناسبة تدشين المركز العالمي للحوار “لقاء”
الرّبوة، 10 أيار 2011
باسم المسيح المخلّص القائم من بين الأموات، نفتتح المركز العالمي للحوار “لقاء” التابع لبطريركيّة الروم الملكيّين الكاثوليك في الربّوة.
ندشِّن مركز “لقاء” بحضوركم ورعايتكم، يا فخامة رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة العماد ميشال سليمان الأكرم. إنَّ حضوركم هو الدَّليل على محبّتكم لكنيستنا الروميّة الملكيّة الكاثوليكيّة. وعلى اهتمامكم المميّز بالقيم الروحيّة، والاجتماعيّة، والحواريّة اللبنانيّة، وتقديركم للأهداف التي يريد مركز “لقاء” أن يحقِّقها، ويكون مكانًا للتّعبير عنها وتطويرها.
مركز “لقاء”. اتَّخذ هدفًا له أن يكون مركزًا محليًّا، وعالميًّا، لحوار الانسان مع أخيه الإنسان: في دينه، وإيمانه، وحضارته، وثقافته، وصناعته، وسياسته، وفكره، وتطلّعاته، وآفاق حياته كلَّها.
إنَّه يولد اليوم. ولكنَّه في خطِّ تقليدٍ عريق في كنيسة الروم الملكيّين الكاثوليك، التي تعتبر نفسها، وتريد أن تكون دائمًا “كنيسة بلا حدود”. بل كنيسة تدأب جاهدة على بناء جسور في عالم منقسم، وذلك من خلال حوارٍ بلا حدود. إنَّه حوار دينيّ وثقافيّ وحضاريّ شامل.
اللِّقاء كان دومًا موضوع اهتمامي الشخصيّ. فقد كنتُ أحد مؤسسي مركز اللِّقاء في القدس عام (1983)، إلى جانب رئيسه منذ تأسيسه الدكتور جريس خوري، من أبناء كنيستنا في الجليل الأعلى. وقد أسَّسناه مع نخبة من المفكِّرين والأساتذة الفلسطينيّين الجامعيين، مسلمين ومسيحيِّين. وكنت أنا رئيس مجلس أُمنائه حتى انتخابي بطريركًا عام (2000). وكان مركز “اللِّقاء” المركز الحواريّ بامتياز في فلسطين ولا يزال.
اخترنا عبارة “لقاء”. ومن خلال ذلك أردنا أن نعبّر عن الهدف الأساسيّ لهذه المؤسسة. إنَّه اللِّقاء بالمطلق. سندعو الناس إلى اللِّقاء والتلاقي. ولكن، بدون تحديد هدف هذا اللقاء أو موضوعه، إنَّه لقاء بمساحة آفاق الإنسان. مهما اتسعت وتشعَّبت.
إنَّه مركز لقاء الإنسان مع الله، ولقاء الله مع الإنسان، من خلال الإيمان، والدين، والمعتقد. إنَّه لقاء دينيّ، وإيمانيّ، ومسيحيّ، وإسلاميّ، ويهوديّ. وأبعد من ذلك إنَّه لقاء مع كلَِّ معتقد، خارج الكنيسة والجامع والكنيس. إنَّه لقاء في معبد هذا الكون الواسع. لقاء الإنسان مع الإنسان، في عالمٍ هو عالم الله وعالم الإنسان. ولا يُحصر في زمان ومكان، ولا في مقولة الشرق والغرب. وليس محصورًا في حضارةِ وثقافةِ مشرقنا العربي، أو محيط ثقافات وحضارات حوض البحر الأبيض المتوسط، أو محيط أوروبَّا أو الغرب… لا بل شرقنا الأوسط، كان وسيبقى دائمًا الطريق إلى الشرق الأقصى. العالم هو أفق مركز “لِقاء”. إنَّه سيكون مركزًا أكاديميًّا منفتحًا ومنبرًا عالميًّا. إنَّه مركز فكريّ لكنيسة الروم الملكيّين الكاثوليك في البلاد العربيّة، وفي بلاد الانتشار، والمهاجر، وفي كلِّ مكان. ومن خلال هذه الكنيسة هو منبر للجميع.
واسمحوا لي يا فخامة رئيس الجمهوريّة الأكرم، أن أقول بكلِّ فخرٍ: مركز “لقاء” هو في خدمة فكركم، ورؤيتكم. وقد أطلقتم فكرة لبنان مركز حوار الحضارات من أعلى منبر عالمي في الأمم المتَّحدة. مركز “لقاء” هو في خدمة مؤتمراتكم، لأجل تحقيق توجّهاتكم وبرامجكم الحواريّة. لا بلّ نضع مركز “لقاء” في خدمة رسالة لبنان الرسالة! لا بلّ لبنان بأسره هو مركز لقاء للعالم العربيّ، وللعالم.
فخامة رئيس الجمهوريّة! أيها السادة! أيها الإخوة والأخوات!
ما كان لهذا الصرح، ولمركز “لقاء” أن يرى النور لولا مَكرُمَة إنسانٍ صاحبِ رؤيةٍ إنسانيّةٍ واسعة، إنسانٍ واسع الآفاق، نيِّرِ الفكر، كبيرِ القلب، ومحاورٍ، رئيسٍ، وقائدٍ حكيم، منفتحٍ على شعبه ومواطنيه، وعلى العالم العربيّ، لا بلّ على العالم بأسره. عنيتُ به جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظَّم، سلطانِ عُمان حفظه الله في رعايته، وحمايته.
وبفضل كرم جلالته، وكرم يده، وقلبه، ونفسه، وسخائه، قام مركز “لقاء”. لا بلّ تحقّق مشروع فريد من نوعه: مشروع مشترك بين سلطنة عمان وبطريركيّة الروم الملكيّين الكاثوليك. إنه مشروع محبّة ربطت البطركيّة بسلطنة عُمان، والبطريركَ بجلالة السلطان المعظّم. إنَّه مشروع بني بحجارة هذه المحبّة. لقد اكتمل بناء الحجر ببركة الله، وفضلِ وعطاء السلطان. وسيبقى المشروع مشتركًا بين البطريركيّة، والسلطنة، ومن يمثّلها، من خلال برامج مركز “لقاء”، ومؤتمراته، وتوجّهاته، وروحانيّته، ورؤيته. وسيُسجَّل هذا الترابط بين البطركيّة، وسلطنة عُمان، بحروف من ذهب في سجلاّت البطريركيّة، وتاريخها، وذاكرة أجيالها. وستبقى ترتفع الصلوات، والأدعية في كنيسة سيدة البشارة، مريم العذراء، “المرأة التي اصطفاها الله فوق نساء العالمين” (سورة آل عمران 3: 42) والممتلئة نعمة. مريم سيدة البشارة شفيعة هذه الكنيسة المطلَّة على مركز “لقاء”، ستبقى تحمي جلالة السلطان، ومعاونيه، وشعبه كلَّه، وستباركه، وجميع العاملين في هذا المركز، والمستفيدين من خدمته.
إنَّ كنيسة سيدة البشارة والتي سندشِّنها عن قريب مرتبطة برسالة مركز “لقاء”. وقد أُعلن عيدُ بشارة مريم العذراء عيدًا وطنيًّا وروحيًّا في لبنان، ولجميع مواطنيه مسيحيّين ومسلمين. إنًّه عيد حواريّ! هو بحرف عبارته باليونانيّة يعني إنجيل: بشارة أخبار سارّة مفرِّحة.
وستبقى تنطلق من كنيسة سيّدة البشارة، ومن مركز “لقاء” أخبار سارّة للإنسان، ولكلِّ إنسان، وللعالم كلِّه، وللبنان، ولسلطنة عُمان. يقول القرآن الكريم: “لقد خلقناكم أممًا وشعوبًا لتتعارفوا” (البيت 49: 13). ويقول يوحنا الحبيب والإنجيليّ: “إنَّ الكلمة صار جسدًا، وحلَّ فينا، وسكن فيما بيننا” (يوحنا1: 14). وفي هاتين الآيتين الكريمتين، مختصر برنامج مركز “لقاء”، لا بل إنّه برنامج سياسةٍ، وأدب، واقتصاد، واجتماع.
الله سبحانه، وتعالى، هو الذي أسس أولاً مركز “لقاء”، بخلقه الإنسان على صورته، ومثاله، وبتجسده. ودعا البشر إلى لقائه، ومحبّته. ودعاهم إلى المحبّة، وجعلها شرط إتِّباعه، وأساسَ وصاياه، وتعاليمه المقدَّسة، وإنجيله. وقال: “بهذا يعرف الناس أنَّكم تلاميذي. إذا كنتم تحُّبون بعضكم بعضًا”. (يوحنا 13: 35).
” إنَّه سلامنا! هو الذي جعل من الشعبين واحدًا. لقد نقض الحائط الحاجز بينهما، أي العداوة… وجعل من الاثنين إنسانًا واحدًا جديدًا، بإحلاله السلام بينهما، وصالحهما مع الله!” (أفسس 2: 14-15).
وأشكر الفريق الأساسي الذي رافق تحقيق هذا الحلم الفريد، وحمله إلى جلالة السُّلطان، وأعدَّ مخطَّطاته، ورافق مراحل إنشائه، وهو يضمُّ قدس الأب الدُّكتور ميشال سبع رئيسَ مدرستنا البطريركيَّة في بيروت، المنسِّق الذي اهتمَّ بإيصال حلم البطريرك إلى جلالة السُّلطان. والإيكونوموس القيِّمَ البطريركي العام الأب إيلي شتوي الذي سهر على سير الأعمال في المركز. والمهندس إيلي أبو حلا وعقيلته، الذي وضع خبرته وفنَّه وغَيرته وأمانته، بحيث أصبح هذا المركز من أهمِّ إنجازات بطريركيَّتنا. كما نشكر المهندسين والعمَّال الذين تفانوا في العمل بإتقان مميَّز. كما أنَّنا نُبارك لمن سيكون في إدارته، ونتمنَّى لهم جميعًا التوفيق. والمخلِّص يجزل لهم المكافأة.
فخامة رئيس الجمهوريّة الأكرم! أيُّها الإخوة والأخوات! هذا هو مركزكم! وهو مستعدّ لاستقبالكم، ولاستضافة نشاطاتكم. آملاً أنَّكم ستدعمونه بكلِّ ما لديكم من وسائل، ماليًّا، ومعنويًّا… بالفكر، والاقتراحات، وبتوفير مموِّلين لمؤتمراته، ونشاطاته. وهكذا يحقق مركز “لقاء” أهدافه ببركة المخلِّص وتضامنكم وتعاونكم.
ولكم جزيل الشكر، مع المحبّة.
غريغوريوس الثالث
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والإسكندريّة وأورشليم
للرُّوم الملَكيِّين الكاثوليك