من غريغوريوس عبدِ يسوعَ المسيح
برحمة الله تعالى بطريرك أنطاكية وسائر المشرق
والإسكندريّة وأورشليم
إلى السّادة المطارنة، أعضاء المجمع المقدَّس الموقّرين
وسائر أبنائنا وبناتنا بالمسيح يسوع، إكليروساً وشعباً
المدعوّين قدّيسين، مع جميع الذين يدعون باسم ربِّنا يسوع المسيح، ربِّهم وربِّنا
نعمةٌ لكم وسلامٌ من الله أبينا، والرَّبِّ يسوع المسيح (اكور: 1-3).
“أنا مصلوبٌ مع المسيح” (غلاطية 20:2)
“أنا مصلوبٌ مع المسيح”! لتكُنْ هذه العبارة صلاتَنا الخاشعة، نُردِّدُها طيلة هذا الصَّوم الأربعيني الكبير المُقدَّس، في مسيرتنا الرُّوحيّة نحو القيامة المجيدة، بتواضعٍ وثقةٍ واستسلام، وصبرٍ ومحبّةٍ ليسوع المصلوب!
أَردنا أن تكون رسالة الصَّوم، مُكرَّسةً لبولس الرَّسول، في العام المُكرَّس له، كما كانت رسالة الميلاد. لا بل هذه العبارة: “أنا مصلوبٌ مع المسيح” هي شرحٌ لحياة بولس في المسيح، وشرحٌ للآية: “الحياة لي هي المسيح”. فالمسيح في نظر بولس، هو المسيح المصلوب، والمسيح القائم في آنٍ واحد. سنتأمَّل معاً في مكانة الصَّليب، ومعناه، من خلال رسائل بولس.
بولس والصَّليب
يؤكِّد بولس في رسالته إلى أهل غلاطية، قائلاً: “إنِّي قد صُلِبتُ مع المسيح. فلستُ أنا حيّاً بعد، بل المسيح حيٌّ فيَّ. وإن كُنتُ الآن أحيا في الجسد، فإنِّي أحيا في الإيمان بابن الله، الذي أحبَّني، وبذلَ نفسَهُ عنّي” (غلاطية 2: 19-20).
ويُخاطب أهلَ غلاطية بعزَّةٍ وفخار: “حاشى لي أن أفتخر، إلاّ بصليبِ ربِّنا يسوع المسيح، الذي به صُلِبَ العالمُ لي، وأنا صُلِبتُ للعالم” (غلاطية 14:6).
ويزيدُ على ذلكَ قائلاً: “إنَّني حاملٌ في جسدي سِماتِ الرَّبِّ يسوع” (غلاطية 17:6)، أي يسوع المصلوب.
وبالنَّسبة إلى بولس، التَّبشير بالإنجيل لا يُمكن أن يصير إلاّ من خلال الصَّليب، وموضوعه الخلاص بالصَّليب: “إنَّ المسيح أرسَلني لأُبشِّر بالإنجيل، ولكن، لا بحكمةِ الكلام، لِئلاّ يُبطَلَ صليبُ المسيح. فإنَّ كلمة الصَّليب (أو كلامَ الصَّليب) عند الهالكين جهالة. وأمَّا عندنا نحنُ المُخلَّصين، فالصَّليب قُدرَةُ الله” (1كورنثُس 1: 17-18). ولاحقاً يقول: “اليهودُ يسألونَ آيةً، واليونانيّونَ يطلبونَ حكمة. أمَّا نحنُ، فنَكرِزُ بالمسيحِ مصلوباً، عثرةً (أو شكّاً) لليهود، وجهالةً للأُمَم. أمَّا للمَدعوِّين، يهوداً ويونانيِّين(1)، فالمسيحُ (المصلوب) هو قُدرَةُ الله وحِكمةُ الله. لأنَّ ما هو جهالة عند الله أحكمُ من النّاس. وما هو ضُعفٌ عند الله أقوى من النّاس” (1كورنثُس 1: 22-25).
يُتابع بولس كلامَهُ، شارِحاً معنى الصَّليب وقوَّتهُ في حملِ بشارةِ الإنجيل، في عالمٍ وثنيّ، يرفضُ الضَّعيفَ والجاهل، والخسيسَ والحقير، ويحكُمُ عليهم كلِّهم بالموت، أو بالعبوديّة، والعيش في الذُّلِّ والهَوَان. أمَّا في منطق بولس فالمُهمَّشون والفقراء والضُّعفاء، همُ الذين يحملُ إليهم رسالةَ الإنجيل، قائلاً: “إنَّني حَكمتُ، بأن لا أعرفَ بينكُم إلاّ يسوع، وإيَّاهُ مصلوباً” (1كورنثُس 2:2). ويقولُ لاحقاً: “ولو أدركَ العالم، حكمةَ الله وتدبيرَهُ لما صلبَ ربَّ المجد” (1كورنثُس 8:2).
الجماعة المسيحيَّة الأولى والصَّليب
يُريد بولس أن يكون المؤمنون في خطِّهِ، وأن يعيشوا بروحانيَّته السَّامية. فيتوجَّهُ إلى أهل غلاطية، قائلاً لهم: “من سَحَرَكُم، أنتُم الذين رُسِمَ أمام عيونِهِم يسوعُ المسيحُ مصلوباً” (غلاطية 1:3). بالطَّبع، بولس هو الذي رسَمَ صورةَ المسيح المصلوب، وآلامِهِ، أمام أعيُنِ المؤمنين في غلاطية.
ويُحذِّرُهُم من الذين يُضلُّونَهُم، ويحمِلونَهُم على الابتعاد عن الإنجيل، لِئلاّ يُضطَّهدوا “من أجل صليب المسيح” (غلاطية 12:6).
وفي الرِّسالةِ إلى العبرانيِّين تحذيرٌ شديدُ اللَّهجة، من الابتعاد عن الإيمان، وتعاليم الإنجيل. لأنَّ الذين يكفُرون بقيَم الإنجيل، حيثُ الصَّليبُ قِمَّةٌ في سرِّ المسيح، “يُعيدون بأنفُسِهِم صلبَ ابن الله” (عبرانيِّين 6:6).
وبالعكس، فإنَّ السَّيِّد المسيح قَبِلَ عار الصَّليب، “وصارَ طائعاً حتّى الموت، موت الصَّليب. لذلك رفَعَهُ الله رفعةً فائقة. وأنعمَ عليه بالاسم الذي يفوقُ كُلَّ اسمٍ” (فيلبي 2: 8-9).
ولا خلاص للمؤمن إلاّ بالصَّليب. لا بل العالمُ ذاهبٌ إلى الهلاك إذا “رُفِعَتْ معثرةُ الصَّليب” (غلاطية 11:5). وذلك يعني، أنَّ المجتمع الذي ينكر منطق الخلاص من الشرّ والخطيئة والألم بالصَّليب، ويرفض واقع الصَّليب، ولا يراه في كُلِّ مراحل حياة النَّاس، فإنَّهُ مُجتمعٌ أنانيّ، ليس فيه كرامةٌ للإنسان، خاصَّةً الضَّعيف، والفقير، والمُتألِّم…
المُصالحة بين الشُّعوب بالصَّليب
وبالعكس يستقيمُ المُجتمع، ويعمُّ السَّلامُ بين فئاته وشرائحه. لا بل يحلُّ السَّلام بين الأُمم، وتتمُّ المُصالحة التي هي أساس السَّلام، ويتقرَّب الإنسان من الله بالتَّوبة عن طريق الصَّليب، ومن خلال يسوع الذي احتمل الآلام والصَّلب، لأجل خلاص البشر.
وهذا ما يُعبِّر عنه بولس، في رسالته إلى أهل أفسُس، ويضع من خلالها، أساساً لكُلِّ معاهدات السَّلام بين الشُّعوب، بعد الحروب الطَّاحنة، التي ما زالت تدور رحاها في عالمِنا، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، فيقول: “أمَّا الآن (بعد الحروب والخلافات على أنواعها) فأنتُم الذين كانوا قَبْلاً بَعيدين، قد صِرتُم قريبين بدم المسيح (المصلوب). لأنَّهُ هو سلامُنا. هو جعلَ الاثنَين (الشَّعبَين) واحداً. إذ نَقضَ الحائطَ الحاجزَ بينهُما، أي العداوة. وأزال في جسدِهِ (المُسمَّر على الصَّليب) النَّاموسَ، ووصاياهُ وأحكامَهُ. ليُكوِّنَ في نفسهِ من الاثنَين، إنساناً واحداً جديداً، بإحلال السَّلام بينهُما. ويُصالحَهُما مع الله، كِلَيهِما في جسدٍ واحد، بالصَّليب الذي به قتلَ العداوة. فلقد جاء وبشَّرَ بالسَّلام، بالسَّلام لكُم، أنتُم البعيدين. وبالسَّلام للذين كانوا قريبين. لأنَّ به (يسوع المصلوب) لنا كلينا، التَّوصُل إلى الآب، بروحٍ واحد” (أفسُس 2: 13-18).
فالغُفران الحقيقي، والمَغفِرة، والمُسامحة، والتَّوبةُ عن الشرّ هي في أساسِ كُلِّ مُصالحة. وهذا ما حقَّقهُ المسيح بالصَّليب، كما يقول بولس الرَّسول، في رسالته إلى أهلِ كولوسّي: “إنَّ المسيح محا الصَّكَّ (المرقومةَ فيه خطايا البشر) الذي علينا، ورَفَعَهُ من الوسط، مُسمِّراً إيَّاهُ على الصَّليب” (كولوسّي 14:2).
فالصَّليبُ هو نصرُ المؤمنِ الحقيقيّ. والمؤمنون، لا بل البشر كُلُّهُم، مَدعوُّون إلى السَّير في طريق الصَّليب “ناظرين إلى مُبدِئِ الإيمانِ ومُكمِّلِهِ، إلى يسوع، الذي بدَلَ السُّرورِ الموضوعِ أمامَهُ، تحمَّلَ الصَّليب، هازِئاً بعارِهِ، وجلَسَ عن يمين عرشِ الله” (عبرانيِّين 2:12).
بولس في مدرسة صليب يسوع
وفي هذا كُلِّهِ، بولس هو في مدرسة يسوع، الذي رآهُ على طريق دمشق. وكأنِّي بيسوع عندما يُخاطب شاول قائلاً: “شاول! شاول! لماذا تضطهِدُني؟” (أعمال 4:9)، يقولُ لَهُ: لماذا تُريدُ أن تصلِبَني من جديد؟ ولا شكّ أنَّ بولس، قد رأى في يسوع، على طريق دمشق، مصلوباً وقائماً، في آنٍ واحد. لأنَّ يسوع يربط دائماً الصَّليب بالقيامة. وعدمُ فهمِ الرُّسُل لهذه العلاقة، بين الصَّليب والقيامة، كان في أساس تَردُّد التَّلاميذ في آتِّباع يسوع، عندما كان يُكلِّمُهُم عن حقيقة الصَّليب. وهذا كان موقف اليهود، ورؤساء الكهنة والكَتَبة، وجميع الذين كانوا واقفين إزاء الصَّليب: “خلِّصْ نفسَكَ، وأنزلْ عن الصَّليب…، لينزِلِ الآنَ المسيحُ ملِكُ إسرائيل عن الصَّليب، لِنرى ونؤمِن” (مرقس 15: 30-32؛ متّى 42:27؛ مرقس 34:8؛ لوقا 33:9). مطلب الجموع: إلغاء الصَّليب من حياة المسيح. أمَّا يسوع فيضع شرطاً لاتِّباعه، ليس الهروبَ من الصَّليب، بل حمْلَهُ: “من لا يحمِلْ صليبَهُ ويتبعْني، فليس أهلاً لي” (متّى 38:10)، “إن أراد أحدٌ أن يسيرَ ورائي، فليُنكِر نفسَهُ، ويحمِلْ صليبَهُ، ويتبَعْني” (مرقس 34:8)، “إن أراد أحدٌ أن يسير ورائي، فَليُنكِرْ نفسَهُ، ويحمِلْ صليبَهُ كُلَّ يومٍ ويتبَعْني” (لوقا 23:9)، “ومن لا يحمِلْ صليبَهُ ويَتبعْني، فلا يُمكِنُهُ أن يكون تلميذاً لي” (لوقا 27:14).
الرُّسُل لم يفهموا معنى الصَّليب
تلاميذ يسوع أنفُسُهُم يتشكَّكون من الصَّليب، ويُنزِّهون يسوع مُعلِّمهم من عارِ حملِهِ.
فعندما يُنبئ يسوعُ تلاميذَه بأنَّ: “رؤساء الكهنة والكَتَبة، سيحكمون على يسوع بالموت، ويُسلِمونه إلى الأمم (الرُّومان الوَثَنيّون) ليَهزأوا به، ويجلِدوه، ويصلِبوه” (متّى19:20)، تُبادِر أُمُّ تلميذَين من تلاميذ يسوع، أُمُّ ابنَي زَبَدى، وتطلُب من يسوع: “أن يجلِس أحدُهُما عن يَمينِهِ، والآخرُ عن يسارِهِ” (متّى 20: 20-22)، ويتقدَّم بنفس الطَّلب، التِّّلميذان يعقوب ويوحنّا، ابنا زَبَدى (مرقس 35:10).
وإنَّهُ لَمؤشِّرٌ مُلفتٌ، كيف يستقبل التلاميذ إنباءَ يسوع إيّاهُم بالآلام (متّى 17: 22-23)
(متّى 20:20) (متّى 16: 21-23 وبخاصَّةٍ 22؛ متّى 2:26؛ مرقس 8: 31-33)، والدَّعوةَ إلى حملِ الصَّليب (مرقس 8: 34-38).
وحتّى آخر لحظة، في ليلة الآلام، وفي السَّاعات الأخيرة، لا يفهم التَّلاميذ معنى الآلام، أو التَّلميحَ إلى الآلام (لوقا 9: 44-45؛ لوقا 18: 31-34؛ يوحنّا 16: 16-18).
وفي يوحنّا نرى بعض التَّلاميذ، يتذمَّرون لدى سماعِهِم تعليم يسوع، حول خُبزِ الحياة، وعن الجسد المبذول (أعني الآلام، والصَّليب، والموت) لأجل العالم (يوحنّا الفصل السَّادس). لا بل تراجَعَ بعضُهُم عن اتِّباع يسوع، بسبب هذا الخطاب.
وفي بستان الزَّيتون نرى بطرُس يضرب بالسَّيف، ويُريدُ استعمال القوَّة، ليُدافِعَ عن مُعلِّمِهِ. ويسوع يردَعه، ويشفي أُذُنَ عبدِ رئيس الكهنة، التي قطعها بطرُس بسيفِه (يوحنّا 18: 10-11؛ لوقا 22: 49_51؛ متّى 26: 47-52).
بطرُس مُستعدّ للذَّهاب مع يسوع، ليموتَ معه. ولكنَّهُ يضعف أمام واقع الخيانة، وآلام يسوع، والصَّلب، ويُنكِر أنَّهُ يعرف يسوع! (لوقا 22: 31-34)
وهذا ما جرى لِتلميذَي عمَّاوُس، عشيَّة أحد القيامة. إنَّهُما حزينانِ يائِسان، من الأحداث المؤلِمة، التي جرَت في القُدس، أعني الآلام والصَّلب. وخاطبا يسوع دون أن يعرِفاه وأخبراه: “عمَّا يختصُّ بيسوع النَّاصريّ، الذي كان نبيّاً قويّاً بالفِعل والقول أمام الله، وجميعِ الشَّعب. وكيف أسلَمَهُ أحبارُنا وأولياؤنا، لقضاء الموت، وصلبوه. وكُنَّا نظنّ، أنَّه هو الذي سيُنقِذُ إسرائيل” (أيضاً القوَّة) (لوقا 24: 20-21).
وهذا كُلُّه، يدلُّ بوضوحٍ على رفض الصَّليب، وعدم فهمِهِ لدى التَّلاميذ.
الصَّليب في النُّبوءات والمزامير
ونرى رفض الصَّليب، وكُلَّ ما يعني الصَّليب، من آلام ومصائب، في النُّبوءاتِ وفي المزامير، وبخاصَّةٍ المُتعلِّقة بعبد يهوه المُتألِّم. وفيها وصفٌ دقيقٌ لآلام يسوع وصلبِه.
مز 21: ثَقَبوا يدَيَّ ورِجلَيَّ، وأحصوا كُلَّ عِظامي (16-17)
مز 34: إنهالَتْ عليَّ السِّياطُ ولَمْ أعلَمْ (15)
هزِئوا بي هُزءً. صَرُّوا علَيَّ بأسنانِهِم (16)
مز 68: أعطَوني لِطعامي مرارة. وفي عطَشي سَقَوني خَلاًّ (21).
مز 108: كافَأوني الشَّرَّ بالخير. والبُغضةَ بمحبَّتي لهُم (5)
نَظروا إليَّ، فهَزُّوا بِرؤوسِهِم (25)
أشعيا 50: بذَلْتُ ظَهري للسِّياط، وخَدَّيَّ للناتِفين (6)
أشعيا 53: لا صورةَ لهُ ولا بهاء… رَجُلُ أوجاعٍ… جُرِحَ لأجلِ معاصينا. وسُحِقَ لأجلِ آثامِنا. وبِشُدخِهِ شُفينا… ألقى عليه الرَّبُّ إثمَ كُلِّنا. سِيقَ إلى الذَّبحِ كَشاةٍ. وكَحَمَلٍ صامِتٍ أمام الذين يجُزُّونَهُ، ولمْ يَفتحْ فاه… جعَلَ نفسَهُ ذَبيحةَ إثمٍ… وحملَ آثامَهُم… أفاضَ للموتِ نفسَهُ، وأُحصيَ مع العُصاة. وهوَ حملَ خطايا كَثيرين، وشَفَعَ بالعُصاة.
ولا شكّ أنَّ التَّلاميذ لم يكونوا يَتلونَ هذه المزامير بارتياح، كما نحنُ اليوم لا نتلوها بارتياح. وحاوَلتْ كنيستُنا حذف كُلّ الآيات المُتعلِّقة بالألم والخيانة والبُغض والكراهيّة والعُنف والقتل من الكُتُبْ الطَّقسيّة… وكُلُّها، بأسف، من واقع حياة البشر. وإنَّما أتى يسوع، ليُزيلَها كُلَّها بصليبه! ولكنَّنا حتّى الآن، لا نفهم منطقَ يسوع، ومنطقَ الصَّليب، تماماً كما جرى للتَّلاميذ.
رُبَّما توما الرَّسول يُشكِّلُ شواذاً! فهو يُريدُ أن يرى يسوع القائم، ولكن مع علائم الألم والصَّلب: “إنْ لمْ أنظُرْ موضِعَ المسامير في يدَيه، وإن لمْ أضعْ إصبَعي، في موضِع المسامير، ولمْ أضعْ يدي في جنبِه (المفتوح بالحربة)، لا أومِن” (يوحنّا 25:20). ويسوع يَنزِل عند رغبة توما، وباقي التَّلاميذ، ويُري التَّلاميذَ يدَيهِ ورِجلَيه (آثار المسامير) (يوحنّا 20:20).
وعلى ظنِّي أنَّ بولس الرَّسول، رأى يسوع على طريق دمشق، كما رآهُ توما والتَّلاميذ، بعد القيامة، مع آثارِ المسامير، وطعنة الحربة بادية على جِسمِه… وهذا ما نراهُ في الإيقونات المُقدَّسة. فهو المسيحُ المُتألِّمُ والمصلوب والقائمُ والحيّ والمُمجَّدُ في آنٍ واحد.
وبولس فَهِمَ سرَّ الصَّليب أكثر من سائر الرُّسُل، بسبب هذه الرُّؤية، على طريق دمشق، التي جمعَت في آنٍ واحد، بين الآلام والصَّلب والقيامة. بينما التَّلاميذُ الذين عاشوا مع المسيح لم يكونوا قادرين أن يتصوَّروا هذه الآلام، ويفهموا معنى الصَّلب والموت، وهُم يَروُن يسوعَ نبيَّاً قويّاً شعبيّاً يجترِحُ العجائب، ويُعلِّمُ بحكمةٍ فائقة، ويُفحِمُ الفَرِّيسيِّين… ومع ذلك، يُنبِئهُم بالآلام والصَّلب.
وفي الواقع، بدأ الرُّسُل يربطون بين الصَّليب والقيامة، بعد قيامة يسوع. لا بل بالحريِّ، بعد حلول الرُّوح القدس عليهم يوم العنصرة. إذ ذاك بدأوا يفهمون سرَّ الألم والخطيئةِ والإثم، والصَّلب، والموت، مُرتبطاً بسرِّ الخلاص والقيامة، وحقيقتها! وهذا ما نراهُ بوضوحٍ، في سفر أعمال الرُّسُل، حيثُ نرى أنَّ كرازة الرُّسُل وخُطَبَهُم، مُرتكزة على واقع الصَّليب والقيامة والتَّوبة، والعودة إلى الله.
من هنا نفهم أيضاً موقف اليهود الذين يَهزأون بيسوع، ويتحدَّونَهُ، كما ذكرنا سابقاً، قائلين: لِينزِل عن الصَّليب، حتّى نؤمن به! لأنَّهم يرفضون الصَّليب. والصَّليبُ عندَهُم كما قال القدِّيس بولس، وذكرنا سابقاً جهالة! وضُعف! وذُلّ…
موقف يسوع من الصَّليب
بعد هذه الجولة في ربوع رسائل بولس الرَّسول، وما ورَدَ فيها من تعليم حول الصَّليب، وموقف الرُّسُل من الصَّليب، قبل القيامة وبعدها، نُريد أن نكتشف موقف يسوع من الصَّليب، ومعنى الصَّليب في اللاهوت المسيحي، والفكر المسيحي، وحياة القدِّيسين، وتاريخ الكنيسة، وواقع الحياة الإنسانيّة…
ونبدأ بموقف يسوع نفسه، فإنَّهُ كان يُنبئ عن آلامه وصَلبِه، ولكنَّهُ صَلَّى أن تعبُرَ عنه هذه الكأس، في بُستان الزَّيتون، قُبَيل الخيانة، وبدءِ آلامه (متّى 26: 39-45؛ مرقُس 14: 35-42؛ لوقا 22: 42-44).
وظهرَ ملاكٌ يُشدِّدُ يسوعَ في نِزاعِه (لوقا 43:22). ويسوع يُحذِّر قائلاً: “الويلُ لِمَن يُسلِمُ ?بن البشر” (متّى 24:26). ويسوعُ يفهم معنى صعوبة ومأساة الألم والإثم والخطيئة، ويشرح لتلاميذه ذلك قائلاً: “الرُّوحُ نشيطٌ، أمَّا الجسدُ فضعيف” (متّى 41:26؛ مرقُس 38:14).
ويسوع نفسه الذي قال: “إنَّما أتيتُ لكي تكون لهم الحياة، وتكون لهم بوفرة” (يوحنّا 10:10). قال: من أراد أن يتبعني، فليحمِلْ صليبَهُ… (راجع الايات السَّابقة، حول حملِ الصَّليب، واتِّباع يسوع). وقال في عظتِهِ، في مجمع اليهود، في النَّاصرة، ذاكراً نبوءة أشعيا: “إنَّ روح الرَّبّ عليَّ، لأنَّهُ مسَحَني لأُبشِّرَ الفُقراء. وأرسَلَني لأُناديَ للمأسورين بالتخلية، وللعُميانِ بالبَصَر. ولأُطلِقَ المُرهَقينَ أحراراً. ثُمَّ طَوى السِّفرَ، ودفَعَهُ إلى الخادم، وجلس. وشرَعَ يقول لهُم: اليوم تمَّتْ هذه الكتابة، التي تُلِيَتْ على مسامِعِكُم” (أنظُر أشعيا 61: 1-2؛ لوقا 4: 14-19).
ويسوع نفسه يقول للمُرسَلين من قِبَل يوحنّا المعمدان الذين سألوه: “أَأَنتَ الآتي؟ أمْ ننتظِر آخر؟ فأجاب يسوع، وقال لهم: اذهبوا، وأخبِروا يوحنّا بما تسمعون وتَرون: العُميُ يُبصِرون، والعُرجُ يمشون، والبُرصُ يَطهُرون، والصُّمُّ يَسمعون، والموتى يقومون، والمساكينُ يُبَشَّرون. وطوبى لِمَن لا يشكُّ فيَّ” (متّى 11: 2-6؛ راجِع لوقا 23:7).
ألَيسَت كُلّ هذه صُلباناً وآلاماً، وأمراضاً وعاهات؟ كما أنَّ علامة مجيء الماسيّا المسيح، هي أنَّهُ يُحِبُّ الخطأة والذين يَئنُّونَ تحتَ صليبِ المرضِ والإعاقة. لا بل لُبُّ رسالته أن يُخفِّف عنهُم عِبءَ حملِ الصَّليب، لا بل يُنزلهُم عن صليبِهِم! ويشفيهِم ويُعزِّيهم، ويَبعثُ الفرحَ في أُسَرِهِم…
وكم من المرضى، على أنواعِهِم، شفاهُم يسوع “وأَنزَلَهُم عن الصَّليب”. وقال فيهِ متّى: “لكي يتِمَّ ما قيل بأشعيا النَّبيّ القائل: إنَّهُ أخذَ أوجاعنا، وحمَلَ أمراضَنا” (متّى 17:8؛ أشعيا 4:53). لا بل من أهمِّ علاماتِ مجيء الماسيّا المسيح، هوَ أنَّهُ يتألَّمُ ويحمِلُ آلامَ البشر.
وعندما يرى يسوع المرضى والمُتألِّمين وذَوي العاهات، يَتحنَّن عليهم، ويَشفيهم، ويُكثِّر الخبز والسَّمك، لكي يُطعمهم، ويُخفِّف مُعاناتهم، قائلاً: “إنَّني أتحنَّنُ على الجمع” (متّى 32:15).
موضوع الدَّينونة الأخيرة يتمحور حول تخفيف مُعاناة الآخرين، أَعني النّاس الذين يضعهم الله على طريقنا، وعلينا مسؤوليّة تخفيف مُعاناتهم، ومُساعدتهم على حمل الصَّليب، أو “إنزالهم” عن الصَّليب.
وكُلُّنا يعرف الآيات عن الدَّينونة، عن ظهرِ قلبنا: “تعالَوا يا مُباركي أبي، رِثوا المُلكَ المُعدَّ لكُم، منذُ إنشاء العالم. لأنِّي جعتُ فأطعمتموني، وعطِشتُ فسقيتموني. وكُنتُ غريباً فآويتموني، وعُرياناً فكسوتموني، وكنتُ مريضاً فعُدتموني، ومحبوساً فأتيتُم إليَّ…” (متّى 25: 34-45)
أَليسَتْ هذه هي الصُّلبان، التي نُرفَعُ عليها يوميّاً… ونراها يوميّاً بأُمِّ أعيُنِنا في مُجتمعنا؟ وهذه هي التي ندعوها أعمال الرَّحمة الجسديّة، ومُقابلها أعمال الرَّحمة الرُّوحيّة. وكُلُّها في الواقع، مساعدة النّاس، والتَّضامُن معهم، في حملِ صليبهم… وكأنَّنا نسير معهم على دربِ الصَّليب، درب الجُلجلة. ومِثل يسوع نحمل الصَّليب. ومثل سمعان القَيرواني، نحمل الصَّليب مع يسوع!
الإنجيل كُلُّهُ، يرتكز على أعمال الرَّحمة والمحبّة. تعاليم يسوع كُلُّها، وأمثالُهُ وعجائبُهُ، إنَّما غايتُها، شِفاءُ الإنسان كُلِّه، لأنَّ الإنسان خاطِئٌ مريضٌ، وضعيفٌ، ومُعرَّضٌ لكُلِّ أنواع العاهات والآلام، والمصائب والأمراض النَّفسيّة والجسديّة وبخاصَّة الخطيئة… ويسوع أتى لكي يشفي الإنسان كُلَّه نفساً وجسَداً (يوحنّا 23:7)، ويُنزله عن صليب الألم والمُعاناة، ويُطهِّرَهُ من الخطيئة. وقد قال يوحنَّا الإنجيلي: “هكذا أحبَّ الله العالم حتَّى إنَّهُ بذلَ ابنهُ الوحيد (بالصَّليب وعلى الصَّليب) لكي لا يهلِكَ كُلُّ مَنْ يؤمنُ بهِ، بل تكونَ لهُ الحياة الأبديَّة. لأنَّ الله لمْ يُرسِلِ اُبنه إلى العالم ليَدينَ العالم، بل ليُخلِّصَ بهِ العالم” (يوحنَّا 3: 16-17).
لا بل لأجل هذا، هو نفسُهُ حمل الصَّليب، وصعِدَ على الصَّليب، ومات على الصَّليب! وهكذا حوَّلَ الصَّليب اللَّعنة (مَلعونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ على خشبة…) إلى بَرَكة. “وينظُرون إلى الذي صَلَبوه، وطَعنوه” (يوحنّا 37:19)، لأنَّهُ هوَ خلاصهُم. وهوَ رافعُ خطايا العالم. ويقول: “وأنا متى ارتفعتُ عنِ الأرض، جَذَبتُ إليَّ الجميع” (يوحنّا 12: 32).
واستناداً إلى تعليم يسوع، يُمكننا أن نفهم معنى افتخار بولس: “حاشى لي أن أفتخِرَ إلاّ بصليب الرَّبِّ يسوع المسيح” (غلاطية 14:6). وقد سبَقَ أن شرَحْنا في رسالتنا الميلاديّة، كَمْ تحمَّلَ بولس الرَّسول من آلام واضطهادات ومُعاناة، لأجل يسوع…
لقد حملَ بولسُ الصَّليب، وجَهِدَ عاملاً لأجلِ تخفيف الصَّليب عن الآخرين. وكمْ جمَعَ من المُساعدات من كُلِّ الكنائس، لكي يُخفِّف وَطأةَ المجاعةِ في أورشليم؟… ولذا فإنَّ عبارة “الحياة لي هي المسيح” (فيلبي 21:1) مُرتبطة ارتباطاً وثيقاً بعبارة: الصَّليب، والقيامة، والانتصار على الخطيئةِ والألم والموت!
الصَّليب في الصَّلوات الطَّقسيّة
وما معنى العبارات التي نُردِّدها في صلواتنا؟ ومنها في قانون الإيمان: الذي (يسوع) من أجلنا، ومن أجل خلاصنا نزَلَ من السَّماء… وصُلِبَ عنَّا على عهد بيلاطُس البُنطيّ، وتألَّم…، وكم نُردِّد: خلِّصنا يا ابن الله… بشفاعة والدة الإله يا مُخلِّص خلِّصنا! يا رب بشفاعة قدِّيسيك خلِّصنا. وتنتهي أكثر صلواتنا الطَّقسيّة، بعبارات طلب الخلاص، والنَّجاة من الآلام والخطايا… خلِّصي عبيدَكِ من الشَّدائد… أَنقذينا من أصناف المخاطِر… ونُرنِّم في المزمور: “الآنَ أقومُ يقولُ الرَّبّ، أصنَعُ الخلاصَ، وأعتلِنُ بِهِ” (مزمور 5:11). ونُرنِّم أيضاً: “خلاصاً صَنعتَ في وسَطِ الأرض” (مزمور 12:73).
ونُرنِّم بهذا النَّشيد: “خلاصاً صنعتَ في وسَطِ الأرض، أيُّها المسيحُ الإله، وعلى الصَّليب بسطتَ يدَيكَ الطَّاهِرتَين، فجمعتَ كُلَّ الأُمم صارخة: يا ربُّ المجدُ لك”. وأيضاً “يا من في اليومِ السَّادس والسَّاعةِ السَّادسة. سَمِّرَ على الصَّليب. الخطيئةً التي جَسَرَ عليها آدَمُ في الفردوس. مَزِّقْ أيضاً صَكَّ زَلاّتِنا أيُّها المسيحُ الإله. وخَلِّصنا”. وأيضاً “أيُّها الإلهُ ربُّ القوَّات. ومُبدعُ الخُليقةِ كُلِّها. يا مَن بأحشاءِ رحمتِهِ التي لا تُصوَّر. أَرسَلَ اُبنَهُ الوحيد ربَّنا يسوعَ المسيح. لِخلاصِ جِنسِنا. وبصليبِهِ الكريم. مَزَّقَ صَكَّ خطايانا. وانتصَرَ على رِئاساتِ الظُّلمةِ وسَلاطينِها” (السَّاعة السَّادسة).
“يا مَن ذاقَ الموتَ بالجسَد في السَّاعةِ التَّاسِعة مِن أجلِنا. أَمِتْ أَهواءَ أَجسادِنا أيُّها المسيحُ الإله. وخَلِّصنا” (السَّاعة التَّاسعة).
وتُكرِّسُ الكنيسة في طقوسها، بخاصَّةٍ في الشَّرق، يومَي الأربعاء والجمعة، لإكرامِ الصَّليب والآلام الخلاصيّة، لا بل الأحد المُكرَّس للقيامة مُرتبطٌ بالصَّليب.
ونُكرِّمُ القدِّيسين، لأنَّهم حملوا الصَّليب، وتبِعوا المسيح، وعمِلوا جاهدين بكُلِّ السُّبُل، لأجل تخفيف وطأة الصَّليب، عن الخطأة والتَّائبين والمُتألِّمين والمرضى والمُحتاجين… وذلك عن طريق مُساعدة الفقراء، وتأسيس المؤسَّسات الاجتماعيّة والخيريّة.
وللصَّليب دوره في التَّربيّة المسيحيّة، وبخاصَّةٍ في حياة الرُّهبان، والنُّسَّاك، والمُكرَّسين، والمُكرَّسات في الكنيسة.
مفهوم الصَّليب في المسيحيّة
المسيح غيَّرَ مفهوم الصَّليب. والمسيحيّة قَلَبَتْ المَقولة: “مَلعونٌ كُلُّ مَن عُلِّقَ على خشبة”، بمقولة: محبّة الصَّليب والمَصلوب، ومحبّة الإنسان المَصلوب، المُعذَّب، المُجرَّب، الفقير، اليائس، والخاطئ…
ونَسمَع بهذا المعنى في صلواتِنا الطَّقسيّة نشيدٌ لقدِّيسةٍ شهيدة: “نَعجَتُكَ يا يسوع، تَصرُخُ بصوتٍ عظيم: يا عروسي أنا أصبو إليك، وأُجاهدُ في سبيلك، وأُصلَبُ، وأُدفَنُ مَعَكَ في معموديَّتِكَ. وأتألَّمُ من أجلِكَ، لأملِكَ مَعَكَ. وأَموتُ في سبيلِكَ، لأَحيا فيكَ. فَتقبَّلْ كَذبيحةٍ لا عَيبَ فيها، مَن قرَّبَت لكَ ذاتها، حُبّاً لَكَ”.
وهكذا غَيَّرَت المسيحيّة واقعَ الصَّليب إلى قيامةٍ وحياةٍ جديدةٍ بالنِّعمة! وسرورٍ وأملٍ ورجاء… لا بل أصبحَ الصَّليب رمزَها وعلمَها، وفخرَ الكنيسة، وعلامةَ انتصارها على الشَّرّ والخطيئة. ولذا يرتفع الصَّليبُ على قباب الكنائس وداخلها، وهو الزِّينةُ الكُبرى، في هندسة الكنائس وبنائها ورموزها في الدَّاخل.
ولكن الصَّليب لا ينفصلُ أبداً عن القيامة. وينظر المؤمن إلى أبعد من الصَّليب، إلى ما بعد الصَّليب، إلى المسيح المَصلوب عليه، والقائم من بين الأموات، والمُنتصِر على الخطيئة، وعلى الألم، وعلى عذاب الصَّليب، وعلى الموت…
وهذا هو معنى النُّزول الحقيقي عن الصَّليب، وذلك بأن يتحوَّل الصَّليب بالرّغم من وجوده وواقعهِ الأليم وعُمقِ جراحِه. وعندما يُمكنكَ أن تُنزِل إنساناً مُتألِّماً عن الصَّليب، إذ ذاك يؤمن العالم بأنَّ الخلاص مُمكن، وأنَّ الصَّليب ليس عاراً، وليس آخرَ المطاف!
ولِذا لم يكن الصَّليب في المسيحيّة قطّ غايةً، أو هدفاً، أو محطةً نهائيّة…
بل الصَّليب واقع في حياتنا كُلِّنا، شِئنا أم أبَينا. كُنَّا فُقراء أو أغنياء! مُلوكاً أو عبيداً! مُقتدِرين أم ضُعفاء! أصحَّاء أو مرضى. مؤمنين أو مُلحِدين. مسيحيِّين أو مُسلمين أو يهوداً أو بوذيِّين أو وثنيِّين… إنَّهُ واقع، وهو في الوقتِ نفسِه، السَّبيلُ للتَّخلُّص من هذا الواقع، والدَّعوةُ لأجل العمل على تخفيفه، ومُساعدة الآخرين في حملِهِ بكُلِّ الوسائل.
الصَّليبُ والمصلوب رمزُ المسيحيّة
وهكذا أصبح الصَّليب حقّاً، برَكة وليسَ لَعنة. وأصبحَ حقّاً موضوع فَخارٍ وعلامة نصرٍ ثابتة! (قنداق عيد الصَّليب ـ راجِع الأناشيد الكثيرة، في مَدحِ الصَّليبِ المُقدَّس).
ولهذا يبقى الصَّليبُ حقّاً، الرَّمزَ الأكبر للمسيحيّة. ولكنَّ الصَّليب الرَّمز، وعلامة النَّصر، ليسَ خشَبةً، أو حديداً، أو زينةً خارجيّة.
وهكذا يبقى الصَّليب، على قِباب كنائسنا، وداخل الكنيسة، في مكان الشَّرفِ والصَّدارة. ونُعلِّقُهُ على صدورِنا، ونَرفَعُهُ فوق تيجان المُطران، والعروس والعريس. ويتصدَّر صالوناتنا، ويستقبِل ضيوفَنا على مدخل بيوتنا. ويبقى عيدُ رفعِ الصَّليب (14 أيلول) من أكثرِ أعيادنا شعبيّة. ويبقى أسبوع الآلام المَدعوّ الأسبوع العظيم المُقدَّس، القمَّةَ في أعيادنا، واحتفالاتنا الشَّعبيّة، والتَّعبيرَ الأقوى عن روحانيَّتنا، وعبادتنا، وتَقوانا… ولن نفتر عن السُّجود لصليب السَّيِّد المسيح لهُ المجد. ونَعبُد المسيح إلهنا المُعلَّق عليه، لكي يَدُلَّنا من خلال آلامه وصلبه على طريق الصَّليب السُّلطانيّة… إنَّها الطَّريق الحقيقيّة إلى التَّخلُّصِ من الخطيئة وإلى الحياةِ والسَّعادةِ والقيامة والمجد. ونقول دائماً، ونُرنِّم: “لِصليبِكَ يا سيِّدنا نسجُدْ! ولِقيامَتِكَ المُقدَّسة نُمجِّدْ”. ونُردِّد كُلَّ أحدٍ في صلاة السَّحر، بعد أن نكون سمِعنا إنجيل السَّحر، وأحداثَ القيامة: “نسجُدُ لصليبِكَ أيُّها المسيح، ونُسبِّحُ ونُمجِّدُ قيامتكَ المُقدَّسة. فأنتَ إلهُنا، ولا نعرِفُ آخرَ سِواك، ونُشيدُ باسمِكَ… وهوذا الفرحُ قد شمِلَ العالم كُلَّهُ بالصَّليب. فنُبارِكُ الرَّبَّ دائماً، ونُسبِّحُ قيامتَهُ. فإنَّه باحتماله الصَّليب من أجلنا، أبادَ الموتَ بالموت” (نشيد القيامة، في صلاة السَّحر، لأيَّام الآحاد).
نرى من خلال هذه التَّعاليم، والآيات المُقدَّسة، والصَّلوات، أنَّ المسيحي المؤمن مدعوٌّ أن ينظر إلى الصَّليب، وإلى من هوَ مُعلَّقٌ على الصَّليب، وإلى ما وراءَ الصَّليب، وإلى مَن وراء المُعلَّق على الصَّليب، على مثال المسيح المُعلَّق على الصَّليب. ولِذا فالمسيحي المؤمن يُقبِّل الصَّليب، ويَقبَلُ الصَّليب، ولكنَّهُ لا ينكسرُ أمام صليب الحياة اليوميّة، ولا يرضخُ للصَّليب، ولا يخنعُ أمام الصَّليب، ولا ييأس أمام الصَّليب، ولا ينكسِر أمامَهُ، أو تَحته… ولا أمام الخطيئةِ أو التَّجربة أوالمرض، أو الألم، أو المُصيبة… بل إنَّهُ يرى في صليب يسوع، وفي صليبه اليومي، والحقيقي، والواقعي، والأليم، والجارِح، والثَّقيل… يرى على مثال يسوع، تباشيرَ الخلاص، والقيامةِ والفرح، والسَّعادةِ والقوَّة، والأملِ والرَّجاء…
في الواقع، إذا أقصَينا الصَّليب من مكانه المُميَّز في المسيحيّة، كعقيدة، وتاريخ، وحدَث، وواقع في حياة السَّيِّد المسيح، وفي حياة المؤمن، وفي تاريخ الكنيسة، تاريخ الأفراد والجماعة، اليومَ وأمسِ ودائماً… إذا أقصَينا الصَّليب، فإنَّما نكون كالنَّعامة التي تُغطِّي رأسها، وتظنُّ أنَّها قد نجَت من الخطر المُداهِم! لا بل إذا أقصَينا واقع الصَّليب، نكون كاذبين مع ذواتنا، ومع واقعِنا الأليم. ونغشُّ أنفسنا، ونكون كأنَّنا نأخذُ المورفين، لكي لا نتألَّم. والحال أنَّ المورفين الحقيقي هو الصَّليب نفسُه، الذي ليس فقط يُخفِّف الألم، بل يُعطينا قوَّةً جديدة على احتماله، وعلى التَّغلُّب عليه، وتفجير الأمل، والثِّقة، والرَّجاء، لا بل الفرح في قلوبنا.
الصَّليبُ والتَّدبيرُ الخلاصي
كُلُّنا نرفض الصَّليب… ولكنَّنا لا يُمكننا أن نتجاهل أنَّهُ واقعٌ وجوديّ وجدانيّ، شامل، حاضر، يُثقِّل كاهل كُلّ إنسان، شاء أم أبى، مؤمناً كان أو مُلحِداً… والحكمة الحقيقيّة التي يدعونا إليها بولس في موقفه من الصَّليب، هو أنَّ قُدرة الله وحكمته تتجلَّى في الصَّليب. إذ إنَّهُ تعالى، هوَ ينصرنا ويقوِّينا ويُشدِّد عزيمتنا، لنحمل صلبان الحياة، لا بل لنساعد أيضاً غيرنا، قريباً أو جاراً، أو مواطناً، أو إنساناً آخر، في ضيقٍ، يئِنُّ ويتثاقلُ في مسيرته على درب صليبه…
والحكمة الحقيقيّة هي في التَّدبير الخلاصي، الذي أرادَهُ الله بحكمته، أي أنَّ المسيح بطوعِ إرادته، اختار دربَ الصَّليب والآلام، لأنَّهُ يعرف أنَّهُ دربُنا، لأنَّنا خلائق ناقصة، ضعيفة، مُعرَّضة للخطيئة، والألم والمرَض وأنواع البلايا. وأرادَ بعنايته الإلهيّة أن يكون دربُ الصَّليب، الذي هو دربنا بحسبِ طبيعتنا، أن يُصبِح دربَهُ، ولكن باختياره، وذلكَ لأجلِنا، ولأجلِ خلاصِنا. وهذا ما عبَّرَ عنهُ القدِّيس بولس في رسالتِهِ إلى أهلِ فيلبي من خلال نشيدٍ أنشَدَتهُ الجماعة المسيحيّة الأولى في السَّنوات الأولى من تاريخها، يعني قبل العامّ 50 للميلاد (كُتِبَت الرِّسالة إلى فيلبي بين 56-58)، نشيدٍ يختصر التَّدبير الخلاصي في كُلِّ مراحلِه:
“(يسوع) هو القائم في صورة الله!
لم يعتدَّ مساواتهُ لله اختلاساً
بل لاشى ذاته آخذاً صورة عبدٍ
صائراً شبيهاً بالبشر، فوُجِدَ كإنسانٍ في الهَيئة
ووضعَ نفسَهُ، وصارَ طائعاً (باختيارِهِ) حتّى الموت، موتِ الصَّليب، لذلِكَ رفَعَهُ الله” (فيلبي 2: 6-9). من هنا يبدو جليّاً، أنَّ الصَّليب ليس غاية، ولكنَّهُ وسيلة خلاص.
ومع ذلك يبقى الصَّليب وكُلّ ما يَعنيه في التَّدبير الخلاصي، وفي حياة الكنيسة، والمُجتمع، وخبرة الأفراد، يبقى الصَّليب سرَّاً، لأنَّ الخطيئة جَرَحَت الإنسان في صميم طبيعته البشريّة. ويؤكِّد القدِّيس بولس “أنَّ سِرَّ الإثم” يعمل في العالم (2 تسالونيكي 7:2).
فالصَّليبُ هو سِرُّ الله المُحِبّ البشر، يتألَّم ويُصلَب لأجلِ خليقته. وهو سِرُّ الإنسان الخاطئ، الضَّعيف، المُتألِّم، الذي يَئِنُّ تحتَ الصَّليب، وهو مَدعوٌّ إلى حملِ الصَّليب لأنَّهُ سبيلُهُ وطريقُهُ السُّلطانيّة إلى الفداء والخلاص بالمسيح، المصلوب لأجلِه، والقائم لأجل حياته!
وإلى هذا السِّرّ يُشير نشيد من أناشيد عيد الصُّعود الإلهي، حيثُ نقرأ: “أيُّها المسيح الإله. لقد جَدَّدتَ بذاتِكَ طبيعةَ آدَمَ الهابطة إلى أسافل الأرض. لأنَّكَ لِحُبِّكَ إيِّاها أجلَستَها معَكَ. ولِتَحنُّنِكَ عليها وحَّدتها معَكَ. ولاتِّحادِكَ بها تألَّمتَ فيها. ولِتألُّمِكَ فيها، وأنتَ عادمُ التَّألُّم، مجَّدتها معَكَ” (غروب عيد الصُّعود الإلهي).
خبرة شخصيّة
ولا بأس إن تكلَّمتُ عن خبرتي الرُّوحيّة، كراهب في دير المُخلِّص، حيثُ دَرَّبَنا الآباء الرُّوحيّون، والمُرشدون الذين رافقوا مَسيرتنا الرَّهبانيّة، دَرَّبونا على حملِ الصَّليب يوميّاً، وعلى ما نُسمِّيه الإماتات الطَّوعيّة. فكُنَّا نعيش من خلال الإماتات اليوميّة والطَّوعيّة، خبرة حملِ الصَّليب، بفرحٍ وشجاعةٍ وحماسة. ولا أكونُ مُغالياً إذا قُلت إنَّني تعوَّدتُ على حمل الصَّليب، والإماتات اليوميّة، في أمورٍ كثيرة. وهذا ما جعلني حُرَّاً، وأعطاني مناعةً روحيّة. وجعَلَني لا أشعرُ بالحِرمان مهما كانت الظُّروف، لا في الأكل، ولا في الشُّرب، ولا في المَلبَس، ولا في الألَم أو المَرَض، أو في العلاقة مع الآخرين…
لقد عشنا كطُلاّب خبرةَ الصَّليب اليومي، وخبرة بولس الرَّسول الذي قال: “أعرفُ أن أعيش في العَوَز، وأعرف أن أعيشَ في السِّعَة. لقد روَّضتُ نفسي في جميع الأحوال، وفي كُلٍّ منها، على الشِّبع والجوع، على الرَّفاهةِ وعلى الفاقة. إنَّني أستطيعُ كُلَّ شيء، في الذي يُقوِّيني” (فيلبي 4: 12-13).
ويصف بولس ما احتمَلَهُ، لأجل صليبِ المسيح. لا بل حَسِبَ كُلَّ شيءٍ أقذاراً، لأجل المسيح. وحَسِبَ بالعكس الألم والصَّليب رِبحاً! وفي رسالته إلى روما، يصِفُ قوَّة الرَّجاء المسيحي في احتمال الآلام: “مَنْ يفصِلُنا عن محبّة المسيح؟ الشِّدَّة؟ أم الضِّيق؟ أم الاضطهاد؟ أم الجوع؟ أم العُري؟ أم الخطر؟ أم السَّيف؟” (روما 35:8). ويُمكن أن نُتابع هذه اللائحة، من الصُّلبان والآلام…
وهكذا تعوَّدنا نحنُ أيضاً، في الحياة الرَّهبانيّة والنُّسكيّة، على التَّقشُّف، وإماتة الحواسّ والأهواء، من خلال الرِّياضات الرُّوحيّة، والإرشاد، والمُرافقة الأبويّة… فأصبحَ الصَّليب مقبولاً لدَينا، لا بل عذباً وخفيفاً…
وكمْ أفرحُ عندما أسمَعُ في جولاتي، في الرَّعايا، وفي مُناسبات مُختلفة “زلاغيط” النِّساء المؤمنات، يُعبِّرنَ بلُغةٍ شعبيّة عفويّة، عن معنى الصَّليب الحقيقي في حياتي كمُكرَّس، وفي حياةِ كُلِّ مؤمنٍ بالمسيح، وبصليبه، وبآلامه. وهذا نصُّ الزَّلغوطة: “إحمِلْ صليبَكَ واسترح!”.
التَّضامُن في حملِ الصَّليب
وهنا لا بُدَّ من الإشارةِ، إلى أنَّ حمل الصَّليب مثل المسيح، يتخطَّى مسألة أنَّهُ فعل تقوى داخليّة، خاصَّة، … فهو في الحقيقة فعل تضامن مع البشريّة. لا بل هو مسؤوليّة فرديّة وجماعيّة ومُجتمعيّة… ودوليّة وسياسيّة، إقليميّة وعالميّة…
فالصَّليب على أنواعِهِ، موجود في العالم بأسره، وعلى كُلِّ المُستويات. ولا أحد يسير بغير صليبٍ في هذه الحياة. ونحتاجُ إلى قدرٍ كبيرٍ من المحبّة، والتَّضامُن، والتَّآخي لحملِهِ. إنَّها مسؤوليّة عالميّة. والعولَمة تُساعِد في تخفيف الصَّليب، وحملِهِ لدى الكثيرين. وقد أشار إلى ذلك قداسة البابا بنديكتوس السَّادس عشر، في رسالته الأخيرة، بمناسبة يوم السَّلام العالمي، في مَطلع العام 2009.
فإنَّ التَّضامن العالمي، في سبيل حمل الصَّليب، ومُحاربةَ الفقر، والألم والمرَض والعاهات، وفي أثناء الكوارث والحروب… هذا كُلُّه، يتأسَّس على قاعدة روحيّة وأدبيّة واجتماعيّة، تنبع من روحانيّة الصَّليب. إذ إنَّ اختيار السَّيد المسيح الألم والصَّليب سبيلاً لخلاص البشر، يستند إلى حُبِّه للإنسان، واحترام كرامته، وقيمته البشريّة المُطلقة. وبدون هذه الاعتبارات الجوهريّة، لا معنى للصَّليب، أو للألم… ولا معنى لحمل الصَّليب مع الآخر لأجل إسعاده… إذا لم نكن نعترف بكرامته وقدره وقيمته وشخصيَّته…
وقد قال قداسته: “إنَّ أي شكل من أشكال الفقر، يجد جذوره في غياب احترام كرامة الشَّخص البشري المُتسامية. وعندما لا يُعتبرُ الإنسانُ في كامل دعوته، ولا تُحترَم مُقتضياتُ بيئة بشريّة حقيقيّة، تتفجَّر آليات الفقر الشَّريرة” (رقم 2). ويقول أيضاً: “إنَّ الجماعة المسيحيّة، أمانةً منها لدعوة سيِّدها، لن تكلَّ في توفير عونها للأُسرة البشريّة بكاملها، وفي دعم وثبات التَّضامن الخلاّق، لأجل تغيير أنماط الحياة، وأساليب الإنتاج، والاستهلاك، والبُنيات السُّلطويّة القائمة على تسوُّس المُجتمعات المُعاصرة” (الرَّقم الأخير 15).
العولَمة الحقيقيّة، هي أن يعمل الجميع أفراداً وجماعات، والعالم كُلّه، على تخفيف وطأة الصَّليب بكُلّ أشكاله، ومظاهره، وأنواعه في المجتمع.
وهذا معنى افتخار بولس الرِّسول بصليب المسيح، وأنَّه لا يعرف في المؤمنين، إلاّ يسوع وإيّاه مصلوباً، ويَحتمل كُلَّ شيء، لأجل المُختارين، لكي يخلُصوا…
الصَّليبُ في المسيحيّة والإسلام
وهنا، ولأنَّنا نعيش كمسيحيِّين عرب في مُجتمعٍ مشرقيٍّ عربيٍّ ذي أغلبيّةٍ مُسلِمة، لا بُدَّ لنا من أن نُصارِح إخوتنا المُسلِمين وننوِّر أبناءنا المسيحيِّين حول الآية القرآنيّة الشَّهيرة المُتعلِّقة بمعنى الصَّليب في الإسلام والمسيحيّة: “وقولِهِم إنَّا قتلنا المسيحَ عيسى ابنَ مريم رسولَ الله وما قتلوه وما صلبوه ولكنْ شُبِّه لهم. وإنَّ الذين اختلفوا فيه لفي شكٍّ منه ما لهم به من علمٍ إلاَّ اتباعَ الظَّنِّ وما قتلوه يقيناً” (سورة النِّساء 157).
نستميحُ إخوتنا المُسلمين الأحبّاء عُذراً، إذا تجرَّأنا وعرَضنا أمامَهُم بكُلّ تواضع ومحبّة واحترام، شرَحنا “المسيحي” “والإنساني” لهذه الآية القُرآنيّة الكريمة. إنَّ الضَّمير في كلمة “وقولِهِم”، يعود إلى أولئك اليهود الذين تذكرهم سورة النِّساء في الآية 155، وفيها توبيخٌ لهؤلاء اليهود على “كُفرِهِم بآياتِ اللهِ وقتلِهِم للأنبياء بغير حقٍّ” وعلى عبارة “وكُفرِهِم” عُطِفَتْ العبارة “وقولِهِم” في الآية الشَّهيرة.
فإذاً يُفهَم من سياق الآيات، أنَّ الآية الكريمة تردُّ على ادّعاء هؤلاء اليهود وتبجُّحِهِم بأنَّهُم قتَلوا المسيح عيسى ?بن مريم رسولِ الله”. ولذا فإنَّ رفضَ الاعتراف بصلب المسيح في القُرآن، ولدى المسلمين هو في الواقع دفاعٌ عن كرامة المسيح بسبب منزلته السَّامية. ويعني بأنَّ الصَّلب لا يقع على المسيح، لأنَّهُ شخصيَّة مُميَّزة في الإسلام، ويَختلِف عن باقي الأنبياء، مع العلم أنَّ الأنبياء ماتوا ميتةً وحشيّة. ولكن لم يصلبوا كما نعلم من التّوراة. وفي نظرتِنا المسيحيّة، هذا الاختلاف، هو أنَّ المسيح إله. ولذلِك لا يُمكن أن يقع فِعلُ الصَّلب عليه. ونحنُ مُتَّفقون مع الإسلام على هذا الشَّرح، إذ إنَّنا نُضيف عند كلامِنا عن صلب المسيح، أنَّهُ صُلِبَ بالجسد: خلِّصنا يا ابن الله “يا مَن صُلِبَ بالجسد”.
بالإضافة إلى ذلك فإنَّ تنزيه المسيح عيسى بن مريم رسولِ الله عن الصَّلب، يستند إلى تيّارٍ فكريٍّ عند فئةٍ صغيرةٍ من المُفكِّرين المسيحيِّين من القرن الثّالث إعتبرَت نسبةَ الألمِ والصَّلب بالذّات إلى المسيح هو “شكّ” وغير لائق بالألوهة، لأنَّ المسيح هو إله لدى المسيحيِّين فإذاً لا يقع عليه الألم ولا الصَّلب. وقد دُعيَ هذا التّيار “المظهرانيّة أو المظهريّة” (Docétisme ) وقد حرمتهُ الكنيسة. ومن هنا أتت العبارة “ولكن شُبِّهَ لهم” وليس شُبِّهَ بهِ كما تدَّعي العامّة.
ولكِنِّي أجِدُ، وأُحِبُّ أن أجِد معنىً أوسَع وأقوى في رفض الصَّلب والصَّليب، وهوَ أنَّنا كُلَّنا، بشراً، مسيحيِّين ومُسلِمين، وسِواهُم، نرفُض منطق الصَّليب… وهوَ لدَينا كُلِّنا أَمسِ واليومَ ودائماً، كما قال بولس الرَّسول: “كلمة (أو كلام) الصَّليب جهالة” (1كورنثوس 18:1)، و “عثَرَة” (1كورنثُس 23:1).
البشرُ معاً على دربِ الصَّليب
وإذا كان الصَّليب، وما تُمثِّل هذه العبارة، وهذا الرَّمز، وهذه العلامة، من آلام وأمراض وعاهات وشدائد وبلايا، وكوارث، وأحزان، ومتاعب ومُعاناة… يواجِه كُلِّ البشر، إذا كان الصَّليب واقِعاً يُلازِم حياة كُلِّ البشر، فكان من الواجب على البشر، أن يعملوا معاً مثلَ يسوع لأجلِ تخفيف عبء هذا الصَّليب، ويحملوه معاً، مُتحابِّينَ مُتضامِنين.
من هنا توجُّهي إلى أبنائي في كنيستنا الرُّوميّة المَلَكيّة الكاثوليكيّة، في العالم العربي، وفي كُلِّ مكان، أن يتضامنوا معاً، ويضعَ كُلُّ واحدٍ كتِفَهُ إلى جانب كتف أخيه، قريبه، وجارِهِ، وصديقِهِ، ومُواطنِهِ، في سبيل حمل الصَّليب، على دربِ الآلام، خاصَّةً في أيَّام الصَّوم الأربعيني الكبير المُبارَك، في مسيرتنا الرُّوحيّة الصِّياميّة المُشتركة، نحو عيد وأفراح القيامة المجيدة.
عمل مسيحي ـ إسلامي مُشتَرَك
لا بل أتوجَّهُ إلى كُلِّ من يقرأ هذه الرِّسالة على موقع البطريركيّة، وإلى كُلِّ إنسان. وأتوجَّهُ بنوعٍ خاصّ، إلى مواطنينا، إخوتنا وأخواتنا المُسلمين في عالمنا العربي، داعياً إلى عملٍ عربيٍّ مسيحيّ – إسلامي مُشترَك، لأجلِ تخفيف المُعاناة عن أبناء وبنات الشَّرق العربي. وإنَّني أعتبرُ أنَّ الآية القُرآنيّة، التي تُشيرُ إلى رفض الصَّليب في حياة السَّيِّد المسيح، لا يُمكن أن تُلغي الصَّليب من حياة البشر. وبالعكس يدعو الإسلامُ إلى نُصرة الفقير والمُعوَز. لا بل إنَّ الزَّكاة، التي هي رُكنٌ من أركان الإسلام الخمسة، إنَّما تهدف إلى تضامن المسلمين، لأجل مُساعدة إخوانِهِم المُسلمين، للتَّغلُّب على مُعاناتهم، في الفقر والألم والمرض والأوبئة والكوارث الطبيعيّة، والظُّروف المعيشيّة المُختلفة. وهذه كُلُّها صلبان تُثقِلُ كاهل البشر. كما أنَّ الزَّكاة هي لأجل دعم المشاريع الخيريّة والاجتماعيّة والصِّحيّة والثَّقافيّة والتَّربويّة… وأشار المجمع الفاتيكاني الثَّاني إلى ذلك قائلاً: إنَّهم (المسلمون) يُؤدُّون العبادة لله، لا سيَّما بالصَّلاة والزَّكاةِ والصَّوم.
ولِذا فإنَّني أجدُ أنَّ هناك مجالاً واسعاً لعمل مسيحي – إسلامي مُشترك في هذا المضمار. ومعاً نعمل على حملِ صليب عالمنا المشرقيّ العربي.
فَلْنُنْزِلِ الفقيرَ عن الصَّليب*
وبثقةٍ وتواضعٍ، أُحبُّ أن أطلق من خلال هذه الرِّسالة الشِّعار: لا فقير بعد اليوم! وأدعو إلى تحقيق هذا الشِّعار داخل كنيستي الرُّوميّة المَلَكيّة، ولو جُزئيّاً، وكُلٌّ حسَبَ مَقدرته، وفي مُحيطه. وأدعو إلى تحقيقه بتضامن وتواصل وتعاون في عالمنا العربي. وفيه الموارد الكثيرة، وبخاصَّة البترول! وليَكُن البترول سِلاحاً ضدَّ الفقر والمرض والكوارث وما إليها… لا بل أقول: فليكن البترول هو الذي يُواكب مسيرة درب صليب عالمنا العربي. وليكن البترول هو الذي يُنزل الإنسانَ العربيَّ الفقيرَ والمريضَ والمُتألِّمَ والمقهورَ والمَغلوبَ على أمره… يُنزله عن صليبه!
هذه دعوتي إلى كنيستنا! وهذه هي دعوتي إلى عالمنا العربي المحبوب. وأريد أن أكون رسولاً وخادماً لهذا الشِّعار، لأجل تحقيق هذه الدَّعوة! وإنَّني أتوجَّهُ إلى كُلِّ رئيسٍ عربي، وكُلِّ رجُلِ أعمال وثريِّ، آملاً أن يُسمعَ ندائي. لا بل أنا مُستعدّ أن أكون رسولاً لهذا الشِّعار، أجوب العالم العربي حاملاً هذا الشِّعار: لا فقر بعد اليوم في العالم العربي!
لا بل هذه دعوةٌ إلهيّة، نستمدُّها جميعاً مسيحيِّين ومُسلمين، من قيَم إيماننا، ونجد لها صدى في الكُتُب المُقدَّسة. إنَّها دعوة تجمعُنا حول كلمةٍ سواء، وعمل مُشترك، لكي يسير الله معنا، ونحن نسير معاً، مع شعوبنا، مع مواطنينا، على درب صليبهم وجُلجلتهم، لكي نُساعد في إنزالهم عن الصَّليب! فالصَّليب بكُلِّ معانيه وأبعاده وأشكاله ومظاهره، هو واقعٌ، ولكنَّهُ ليس غاية. وإيمانُنا المسيحي يؤكِّدُ لنا أنَّ غاية تجسُّد الكلمة، السَّيِّد المسيح، هي أن يكون الله في عون الإنسان، داعياً الإنسان، ليكون في عون أخيه الإنسان.
في التَّقليد اللاّتيني يوُجد ما يُسمَّى “درب الصَّليب”. ومراحلُهُ مرسومة في الكنائس. وقد دخل هذا التَّقليد في بعض كنائسنا الشَّرقيّة. وكان دربُ الصَّليب ينتهي بالصَّلب على الجُلجلة. ولكنَّ المجمع الفاتيكاني الثَّاني أوصى بإضافة مرحلة أُخرى، هي مرحلة القيامة، وهي المرحلة الخامسة عشرة.
هذا هو معنى الصَّليب في إيماننا المسيحي! دربُ الصَّليب يبقى، لأنَّهُ واقع، ولكنَّهُ لا ينتهي بالصَّلب والموت، بل بالقيامة! فالصَّليب هو الواقع، والقيامة هيَ الهدف والمُرتجى، وخاتمةُ درب الصَّليب! إنَّ عقيدة الفِداء والخلاص، ومنها تتحدَّر روحانيَّة الصَّليب والآلام… إنَّما هي في الواقع تعبيرٌ عن قِيَمِ التَّضامُنِ والتَّعاون والشَّراكة بين البشر. لا بل هي أساس العولمة الحقيقيّة، التي يجب أن تُحقِّق أكبرَ قدرٍ من الخدمات التي تطال جميع النَّاس، وليس لكي تُساعد في تسلُّط فئة على أُخرى.
الحياة مسيرة، بين واقع الصَّليب، ومُرتجى القيامة والحياة.
ويقول القدِّيس بولس الرَّسول: “إحمِلوا بعضُكُم أثقالَ بعضٍ، وهكذا أتمُّوا ناموس المسيح!” (غلاطية 2:6).
مسيرةُ الصَّوم، ومَسيرةُ الصَّليب
هذا هو دربُ الصَّليب! والقِدِّيسون والنُّسَّاكّ والرُّهبان، كُلُّهُم حملوا الصَّليب في حياتِهم، وتقدَّسوا بحملِهِ. وكُلُّهُم بذلوا كُلَّ طاقاتِهِم لأجلِ مُساعدة إخوتهم البشر في حمل الصَّليب. ولذا فالمسيحيّة تجمع دائماً بين مسيرة الصَّليب، ومأساة الجُلجلة، وقيامة السَّيِّد المسيح!
وهذه هي مسيرةُ الصَّوم المُبارك. والمُلفِت أنَّهُ في طقسنا الرُّوميِّ المَلَكيِّ الكاثوليكي (والأرثوذكسي) يتوسَّط مسيرةَ الصَّوم الكبير، الأحدُ الثَّالث، وفيهِ نُكرِّم الصَّليب المُقدَّس، ونضعه على صينيّة مُزيَّنة بالزُّهور والرَّياحين، ونطوف به في الكنيسة. ونُكرِّمه بهذا النَّشيد: “لِصليبِكَ يا سيِّدَنا نَسجُد، ولِقيامَتِكَ المُقدَّسة نُمجِّد!”.
وهذا هو معنى كلمات بولس، موضوع رسالتنا: حاشى لي أن أفتخِرَ، إلاّ بصليب ربِّنا يسوعَ المسيح! ويهتف بولس لاحقاً مُخاطباً الموت: “أينَ غلبتُكَ أيُّها الموت؟ أين شوكتُكَ أيُّها الموت؟ إنَّ شوكة الموت هي الخطيئة. وقوَّةُ الخطيئة هي النَّاموس. ولكن الشُّكرُ لله الذي يؤتينا الغلَبة بربِّنا يسوع المسيح” (1كورنثُس 15: 55-57) أعني بآلامه وصليبه وموته!
بهذه العواطف الرُّوحيّة، وبهذه القناعات الإيمانيّة، نُريد أن نعيش مرحلة الصَّوم المُبارك. سائرين على درب الآلام والصَّليب من خلال الصَّوم والصَّلاة والتَّوبة، وأعمال الرَّحمة الجسديّة والرُّوحيّة وإماتة الحواس، والتُّقشُّف والنُّسك الرُّوحي، وقراءَة الكتاب المُقدَّس، وبخاصَّةٍ رسائل بولس الرَّسول. وليكُنْ دربُ الصَّوم، دربَ القيامة!
أختُمُ بكلمةٍ روحيّة من القدِّيس غريغوريوس اللاهوتي شفيعي: “أمَّا أنتَ، فآسِ المرضى، خفِّف الفقر. وأنتُما أيُّها القويّ والغنيّ ساعدا المريض والفقير. وأنتَ أيُّها الواقف أسعِفْ الواقعَ والمكسور. وأنتَ أيُّها المُتفائل أسند المُتشائم. وأنتَ أيُّها النَّاجِح شجِّع الفاشل. أظهِرْ لله شُكرَكَ على أنَّكَ بين القادرين على صُنعِ الخير. كُنْ إلهاً للفقير في تشبُّهِكَ برحمة الله، فما من شيءٍ يقتبسُهُ الإنسان من الله مثل الرَّحمة” (راجع العظة 14).
ونُحبّ أن نُذكِّر أبناء كنيستنا كما أفعلُ كُلَّ عام بواجب الصَّوم حسب تقليدنا الشَّرقي القديم، ما أمكننا ذلك! يؤكِّد القدِّيس باسيليوس الكبير “أنَّ الله فرَضَ الصَّوم في الفردوس الأرضيّ… وقوله تعالى: لا تأكُلا، هي شريعة الصَّوم والقطاعة” (عظة في الصَّوم _ مجموعة الآباء اليونان 31، 163، 98)
ونفرَح أن نرى في رسالة قداسة البابا بندكتوس السَّادس عشر عن الصَّوم لهذا العام2009، صدى لكُلّ رسائلنا السَّابقة عن الصَّوم. يُشدِّد قداسته على الصَّوم والقطاعة، ويدعو “الرَّعايا إلى ممارسة الصَّوم الشَّخصي والجماعي… لأنَّ الصَّوم (الجسدي) يُشكِّل ممارسة تقشُّفيّة (Ascétique ) ونُسكيّة مُهمّة، وسلاحاً روحيّاً في الجهاد الرُّوحي… حرمان الذَّات من لذَّة الطَّعام ومن أمورٍ أخرى مادّيّة، تُساعد تلاميذ المسيح على تقوية طبيعتنا التي ضَعُفَت بالخطيئة”.
وأُنهي بهذا التَّحريض الرُّوحي، الذي نقرأهُ في الاثنين الأوَّل من الصَّوم الكبير: “لِنبتدئ بالإمساك الكامل الإكرام، مسرورين. مُتلألئين بأشعَّةِ أوامر المسيح إلهنا المُقدَّسة. بضياء المحبّة، وبَرقِ الصَّلاة، وطهارة العفاف، وقوَّة الشَّجاعة. لكي نبلغ مُضيئين بنورِ عدمِ الفساد، إلى قيامةِ المسيحِ المُقدَّسة، الثُّلاثيّة الأيّام، المُبهجة المسكونة”.
صَــــــومٌ مُبــــــــارَك
غريغوريوس الثالث
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والإسكندريَّة وأورشليم
للرُّوم المَلَكيِّين الكاثوليك
دمشق في الثّاني من شباط 2009
عيد اللِّقاء أو دخول السَّيِّد المسيح إلى الهيكل
1- عرَفَ اليهودُ قديماً، عقوبة إعدامِ المُذنِب، بتعليقِهِ على خشبة (راجع سفر تثنية الاشتراع 21: 22-23). وعرَفَ الرُّومان أيضاً الصَّليب، كوسيلة تعذيب وإعدام، للعبيد فقط.
* هذه الفكرة وردت في “لاهوت التحرير”. وبهذا الشأن يمكن مراجعة المصادر التالية:
1. Ignacio Ellacuria, Jon Sobrino, Robert R. Barr Hardcover, Mysterium Liberationis: Fundamental Concepts of Liberation Theology – Conceptos Fundamentales de la Teologia de Liberacion , by Orbis Books,
2. Hollenbach, David, The Global Face of Public Faith: Politics, Human Rights, and Christian Ethics (Moral Traditions), Georgetown University Press, November 2003
3. Sobrino,Jon,The Principle of Mercy: Taking the Crucified People from the Cross, Orbis Books (October 1994)