كان “مؤتمر التراث العربي للمسيحيين والمسلمين في الأرض المقدسة” والذي عقد دورته الأولى في عام 1983 في القدس الثمرة الأولى للجهد الذي قام به عدد من المؤسسين المسيحيين والمسلمين في هذا الوطن.
إن مؤتمر التراث هو مؤتمر فريد من نوعه في الشرق والغرب. لم تكن الدورة الأولى ظاهرة عابرة او اجتماعا لمرة واحدة، لأن المسيرة التي بدت في عام 1983 حضّر لها عدد من الاخوة قبل اجتماعها الأول بسنين وما زالت قائمة وقوية ومعطاءة وخادمة لمجتمعنا حتى هذه اللحظة. إن هذه المسيرة أو هذه الحركة الفكرية فريدة من نوعها لأسباب منها:
1. إيمان المؤسسين القوي بضرورة هذا العمل على اعتبار انه واحد من المسؤوليات الدينية والوطنية.
2. إيمان القائمين على هذا المشروع بان لقاءنا ليس حوارا كالحوار الذي يجري بين المسيحيين والمسلمين بشكل عام، بل هو لقاء وحوار يومي، حوار حياة ومصير.
3. لقاء وحوار العرب المسيحيين والمسلمين ليس بأمر جديد بل استمرارية للحوار واللقاءات التي قام بها الآباء والأجداد منذ بدء الدعوة الإسلامية وحتى اليوم.
4. نحن نلتقي كأبناء شعب واحد وأصحاب لغة واحدة وتراث واحد، الأمر الذي يؤكد على استمرارية العمل والحوار واللقاء. نحن نعيش معا ونتألم ونأمل معا ونصنع المصير معا. ولذا حوارنا ليس حوارا دينيا نظريا فقط، بل له أبعاده الاجتماعية والإنسانية والتربوية والسياسية والاقتصادية. وهذه الأمور تلزم الجميع وتحملهم مسؤولية هذا العمل واستمراريته.
5. إيمان المسؤولين وقناعتهم بان هدف اللقاء ليس تبشيريا بل تربويا، أي أنه يهدف الى معرفة دين الآخر كما هو عليه وليس كما يريده المغرضون.
وهكذا بدأت مسيرة مؤتمر التراث التي تطورت على مدى السنوات العديدة وكان هذا التطور جوابا للتحديات والصعوبات التي واجهت القائمين على هذا البرنامج في مركز اللقاء. وهنا أريد أن اذكر على سبيل المثال لا الحصر بعض هذه التحديات منها: محاولة الاحتلال الإسرائيلي شل هذا العمل وذلك إما عن طريق استدعاء بعض المنظمين واستجوابهم أو استدعاء المحاضرين لمكاتب الحكم العسكري في الساعات المقررة لمحاضراتهم في أيام المؤتمر، أو بفرض منع التجول على منطقة ما أو بوضع الحواجز… الخ ومن جهة ثانية حاول بعض المتطرفين والمتعصبين من المسلمين والمسيحيين الفلسطينيين إقناع المحاضرين أو المشاركين أو القائمين على المؤتمر بعدم الحضور أو المشاركة. ولكن وبالرغم من هذه المحاولات الفاشلة بقيت المسيرة تنمو وتكبر وتتطور. ونحن اليوم نعد برنامج الدورة الرابعة والعشرين لهذا المؤتمر والتي ستعقد في صيف 2012. وقد قام مركز اللقاء بنشر أعمال الدورات السابقة في ستة عشر مجلدا تحتوى على كل المحاضرات والندوات ومنها ما يستعمل في المدارس والجامعات وكلها تعتبر مرجعا غنيا لعدد من الطلاب الذين يكتبون أطروحة الماجستير أو الدكتوراه عن الحوار العربي المسيحي الإسلامي في الشرق بعامة وفي فلسطين بخاصة. وهنا أريد أن أنوّه الى أن عددا من الدارسات في عدد من الجامعات الغربية قد تم حول منشورات اللقاء في السنوات الأخيرة. ومن الأهمية بمكان ان نذكر ان أعمال المؤتمرات في السنوات الأخيرة يتم نشرها في ملف خاص في أعداد مجلة اللقاء.
لم تكتف لجنة المؤتمر بعقد مؤتمر سنوي بل سعت على مر السنوات الى عقد عشرات من اللقاءات الشهرية في قرى ومدن فلسطينية حول أهمية التفاهم الديني والعيش معا واحترام الواحد للآخر. وفي السنوات الأخيرة رأت لجنة المؤتمر وإدارة مركز اللقاء انه من الأهمية بمكان دعوة القادة الروحيين المسلمين والمسيحيين مع عدد من المهتمين للقاءات خاصة إما خلال شهر رمضان المبارك أو في عيد الميلاد المجيد. وكانت مآدب الافطار التي نظمها مركز اللقاء سببا في توطيد أواصر المحبة والعلاقات الأخوية بين أبناء الشعب الواحد. كما وكان لاحتفالات عيد الميلاد المجيد التي شارك فيها مسيحيون ومسلمون الأثر الايجابي على مجتمعنا وأولادنا. وهنا علينا أن لا ننسى مواقف الوحدة التي عبر عنها المسيحيون والمسلمون من خلال مركز اللقاء في المناسبات الوطنية والدينية. فعشرات من البيانات صدرت عن المركز في مناسبات مختلفة وعشرات الوفود زارت مدن وقرى فلسطينية في مناسبات مختلفة، ومؤتمرات صحفية عقدت لتبيان الموقف الواحد للمسيحيين والمسلمين من عدة قضايا وطنية ودينية وإنسانية. هذا اضافة الى الدور الإعلامي الذي قام به مركز اللقاء على المستوى الدولي وذلك من خلال الصحفيين الذين زاروا المركز أو المؤسسات الغربية الداعمة لعمل المركز أو أصدقاء المركز في الدول الغربية. وهنا أريد أن أشير الى أن المركز شارك في عدة مؤتمرات دولية تمحورت حول الحوار بين الأديان وقام وفد من مركز اللقاء قبل سنوات بزيارة خاصة لحاضرة الفاتيكان قابل فيها قداسة البابا يوحنا بولس الثاني وبعض المسؤولين عن الحوار المسيحي الإسلامي، وقد كان لهذه الزيارة بعد إعلامي كبير حيث بينت للغرب معنى ومفهوم قوة وحدة أبناء الشعب العربي الفلسطيني بمسيحييه ومسلميه، وكانت الوفود تؤكد دائما على أهمية الحوار ومعرفة الواحد دين الآخر وعلى أهمية استمرار اللقاءات والحوارات على اعتبار أنها ظاهرة حضارية تقرب بين الشعوب وأبناء الشعب الواحد.
ان الأسباب التي شجعت عددا من الفلسطينيين المسيحيين والمسلمين على إقامة مركز اللقاء لم تنته، وإننا نرى أن دور اللقاء يجب أن يكون أكبر وأشمل في هذه الفترة الحرجة والصعبة التي يمر بها شعبنا حيث تكثر فيه الأزمات وتزداد الصراعات والرغبة في تغذية الطائفية والفئوية. ان السنوات التي مضت على عملنا تعتبر لبنة في بناء كبير ما زال ينتظر الرجال والنساء في هذا الوطن لاتمامه. فالمسؤوليات كثيرة والتحديات كبيرة وعلينا ان نستمر في العطاء ومتابعة الأمور من منطلق وطني وديني مسؤول؛ على أمل ان نعزز لحمة أبناء هذا الشعب وان نفشل كل المؤامرات التي تحاك من حوله. فشيوخنا ورجالنا ونساؤنا وشبابنا أمام مسؤولية وطنية وأمام مسؤولية الهية في تقوية محبتنا واحترامنا لبعضنا البعض ولديننا ولوطننا ولأرضنا. ففي زمن يغيب فيه السلام والعدل، تكثر وتكبر التحديات والمسؤوليات وللدين دور كبير في تحقيق أسس السلام العادل، وصوتنا النبوي يجب أن يكون أكثر وضوحا، مطالبا بالحق لأبناء شعبنا ومركزا على دور الجميع خاصة القيادة الروحية والدينية. وهنا لا يفوتنا أن نذكر أهمية جميع وسائل الاعلام والتربية النظامية والموازية في تربية أولادنا وتنشئتهم على حب الوطن والوحدة الوطنية والتسامح الذي تدعو اليه جميع الأديان.
إذن، حبنا واحترامنا وايماننا القوي بديننا، وانتماؤنا النظيف لهويتنا ولأرضنا ووطننا قد دفعنا الى دراسة الماضي من تراثنا وأدبنا وتاريخنا لتكون رؤيتنا للمستقبل أوضح وانتماؤنا لوطننا أقوى، وكل هذا بهدف إزالة الآلام وتحقيق الأحلام الوطنية لشعبنا من خلال خدمة كلمة الله والإنسان.
وهكذا نشأ مركز اللقاء ليكون مكانا للقاء الإنسان بالله وللقاء الإنسان بأخيه الإنسان.